سلسلة حلقات تنشرها  وكالة 2 ديسمبر، من ملف بعنوان (خرافة الولاية)، وفيما يلي الحلقة السادسة..

 

3.  أكثر الآيات صراحة فيما يبدو أنه توريث لفضيلة النبوة هي قوله تعالى في إبراهيم "وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ" العنكبوت 27. وبصرف النظر عن ميول بعض التفسيرات اعتبار الذرية، ذرية دينية لا عضوية على غرار " وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ" الأحزاب 6، وقوله "مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ" الحج 78. وبغض الطرف عن عدم اشتراط امتداد الذرية لأكثر من جيل كما وصف القرآن النبي يحيى بأنه ذرية زكريا حصرا "هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38 ) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ" آل عمران 38،39.

 

بتجاهل ما سبق فإن الآية لا تعني قطعا حصر النبوة في ذرية إبراهيم العضوية بدليل قوله تعالى "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ" الحديد 26. إذ أن من المعلوم دينيا أن نوح يعد الأب الثاني للبشرية، وبالتالي فإبراهيم وذريته من ذرية نوح، لكن يبقى لنوح ذرية أخرى غير إبراهيم وذريته، تشمل البشرية سوى بني إسرائيل الذين هم عماد ذرية إبراهيم. ورغم أن آية نوح وإبراهيم كان يكفي فيها إفراد لفظ "ذريتهما" للدلالة على إمكانية وجود النبوة في ذرية إبراهيم وغيره من أبناء نوح كون إبراهيم نفسه من هذه الذرية وذلك كما في الآية محل التناول "وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ" العنكبوت 26. ولم يقل "ذريتهم" لأنها تؤدي نفس الدلالة كون إسحاق ويعقوب من ذرية إبراهيم، مع عدم استبعاد إمكانية ظهور أنبياء من ذرية إبراهيم من غير إسحاق ويعقوب كأنبياء من ذرية إسماعيل، ما يلغي إفادة لفظة "وجعلنا" حصر النبوة في ذرية إبراهيم، وبانعدام الحصر العضوي يزول الاختصاص العضوي بالفضيلة.

 

وإن استبعدنا كون نوح الأب الثاني للبشرية فإن القرآن يؤكد من واقع العدالة الإلهية على ابتعاث الرسل لكل الأمم من أي عرق كانت كما في قوله تعالى "وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ" الرعد 7، وقوله "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ" يونس 47، وقوله "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا" النحل 36.

 

إذن فالإشارة إلى الذرية في هذه الآية لا تفيد الاصطفاء العضوي لنسل معين أو تخصيصهم بأفضلية توارث الوظيفة النبوية لإمكانية ظهور النبوة في غير هذا النسل – ذرية نو ح من غير ذرية إبراهيم- وإنما تفيد ما تناوله القرآن في كثير من المواضع عن الحالة الخاصة لبني إسرائيل، النسل الأساسي لإبراهيم، بمعنى أن بني إسرائيل في حقيقتهم مجموعة بشرية تماهى فيها العرق في مفهوم الأمة المستندة على مكونين متمازجين، القومية والدين، فهم وفق التعبير القرآني قوم أو أمة يستدعي وجودها وجود رسل منهم لإنذارهم وتبشيرهم " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ" إبراهيم 4. ونتيجة لهذا التماهي القومي الديني كان طبيعيا أن تتكون ذرية إبراهيم من أنبياء يحملون الرسالة إلى أمتهم.

 

مما سبق يتوضح أن الاصطفاء والتفضيلات الواردة في الآيات القرآنية لبني إسرائيل وانتقالها لمعينين لديهم قرابات عضوية بمصطفين لا يلغي انطباق قواعد الاصطفاء المشار إليها سابقا وفي آيات أخرى من كون الاصطفاء والتفضيل عملية توقيفية على الله للمعينين، وإنها في الأغلب لاحقة، وأنها نسبية ومشروطة، والأهم أن أساسها ابتداءً هو الفعل والاكتساب الإنساني بالارتقاء إلى دائرة الاصطفاء الإلهي والمساعدة الإلهية التالية، وما يؤكد ذلك قوله تعالى:

 

قال مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" الأعراف 128، التزام الصبر والتقوى.

 

وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا" الأعراف 137، خصوصية متعلقة بالاستضعاف والاستحقاق عبر الصبر

 

وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ ۚ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ" الصافات 113، اصطفاء غير مطلق، ومشروط.

 

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" البقرة 124، استحقاق إبراهيم للإمامة نتيجة التزام التعليمات الإلهية، واستجابة إلهية للدعوة كما تشي الآية وتوضح آيات أخرى مع استثناء ا

 

لخارجين على مسار الالتزام.

 

-    " وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ۚ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ" الطور 21، الآية تجمع بين الالتزام الديني وبين القرابة العضوية وتوضح بجلاء قاعدة الاصطفاء الأساسية المتمثلة في استحقاقه على أساس الفعل الإنساني عبر الالتزام الديني للاقتراب من منطقة التفضيل العام ونيل نتيجته ولا شك أن الأنبياء هم رؤوس المؤمنين، ومن ثم فهم يدخلون في مضمون الآية ونيل الاصطفاء والتوبة الإلهية مرهون بفعلهم الملتزم لا لأنهم ذوو قرابة عضوية.

 

وأخيراً، فإن ما يؤكد أن عملية الاصطفاء والتفضيل تقوم على أساس التزام التعاليم الإلهية ،بني إسرائيل تحديداً، إذ أنهم خرجوا من دائرة التفضيل بانحرافهم عن التعاليم الإلهية، بل وتحولوا إلى دائرة الغضب الإلهي كما يبين السياق القرآني، كقوله تعالى "وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ،، فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ  " المائدة ، 13،12

 

وقوله "وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ " المائد 18.وقوله تعالى "فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ " المائدة 13.

 

ويقول تعالى "وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ" البقرة 40.

 

وهذا ما تشير إليه بوضوح كثير من أسفار العهد القديم، الكتاب المقدس لليهود.

 

بل إن التزام التعاليم الإلهية هو أساس بقاء الاصطفاء الاكتسابي  حتى في حق الأنبياء أنفسهم، إذ انهم بعد دخولهم دائرة الاصطفاء ( الاختيار والتكليف) الإلهي للنبوة فإنهم يرتبطون بمواثيق ملزمة، يقول تعالى "وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا " الأحزاب 7. ويقول في حق نبينا محمد " وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاك لَقَدْ كِدْت تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إذًا لَأَذَقْنَاك ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَك عَلَيْنَا نَصِيرًا" الإسراء 74،75، ويقول " وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ" الحاقة 44- 47.

 

الحلقة السادسة من ملف تنشره وكالة 2 ديسمبر
لقراءة الحلقة الأولى..  "الأسطورة السخيفة"
لقراءة الحلقة الثانية.. "معايير الأفضلية القرآنية"
لقراءة الحلقة الثالثة..  "ألفاظ التفضيل في القرآن"
لقراءة الحلقة الرابعة.. "تفضيل بني إسرائيل"
لقراءة الحلقة الخامسة.. "الوراثة والذرية"

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية