شكل النظام السياسي: "ثيوقراطي، ملكي، جمهوري، أوليغاركي.. فردي، نخبوي، فئوي، ديمقراطي.. ديني، عسكري، مدني.. ونوع الإيديولوجية السياسية الاقتصادية: "رأسمالية، شيوعية، اشتراكية، ريعية، زراعية، تجارية.. هما العمود الفقري للسياسة، في أيّ مجتمع بشري، قديم أو حديث، عاش أو يعيش في ظل سلطة سياسية يمكن أن تسمى "دولة". 
 
فيما يتعلق بالإسلام، تخلو المصادر الرئيسة للإسلام: القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وحتى تجارب الخلافة الراشدة، من مقاربة هذا العمود الفقري للسياسة، بل من أيّ مقاربة نظرية، أو توجه عملي، لنظام سياسي اقتصادي متكامل يمكن اعتبار أنه فُرض من قبل الله، أو اقترحه الرسول، أو ابتكره الخلفاء الراشدون ليكون شكلًا رسميًا لنظام "دولة الإسلام".
 
يعني هذا عفوياً، أمرين بالغي الأهمية:
الأول: أنه لا يوجد نظام سياسي محدد يمكن وصفه بـ"النظام الإسلامي"، وأن الإسلام لم يتبنّ شكلًا محددًا لنظام السلطة والدولة. أما الأحاديث التي تتحدث عن خلافة راشدة ثم ملك عضوض. فقد وضِعت في عصر بني أمية.
 
الثاني: أن "الإسلام السياسي" الذي تأسس مبكرًا في صدر الإسلام، وما زالت فصائله تتكاثر وتتناسل حتى اليوم، وبالتأكيد لمراحل قادمة، لا يستند في مبررات وجوده على أيّ مرتكزات أصولية أصلية وأصيلة في الإسلام.
 
للتفصيل، تاريخيًا، لم يعرف عرب قبل الإسلام -وبخلاف شعوب الدول العريقة في العالم الكلاسيكي، كالفرس والروم واليمنيين- نظام دولة، من أي نوع، كان أكبر تنظيم سياسي بلغته تلك المجتمعات العربية المتناثرة وسط شبه الجزيرة العربية. سوى نظام "القبيلة" الشائع، هو النظام الذي كان في مكة، وهو نظام هلامي خاص غير قابل للتعريف أو التحديد، وكانت دولة الرسول في يثرب أبعد ما تكون عن هذا النظام المكي( ). 
 
ومع أن الرسول أحدث خلال العقد الأخير من حياته، تحولات كبيرة في الحياة العقلية والاجتماعية والسياسية للعرب، إلا أنه لم يترك وراءه مشروعًا نظريًا رسميًا لشيء اسمه "نظام سياسي"، بالمعنى الكلاسيكي لهذا المصطلح، فما أنجزه الرسول عمليًا هو بناء "سلطة"، ونظريًا وضع الخطوط العريضة لكيفية ممارسة السلطة، أبرزها العدل والإحسان، ولم يضع النبي نظرية لتداول هذه السلطة، ولم يترك مؤسسة لاختيار من يتولاها وكيف.
 
أما ما يتعلق بالخلافة والإمامة، فهي أشياء واجتهادات تاريخية بحتة. صعد كلٌّ من الخلفاء الأربعة إلى السلطة بطريقة مختلفة، وبعد وفاة الخليفة الرابع، وخروج الأمور عن السيطرة، صعد معاوية إلى السلطة، فجلب النظام الملكي المعروف في الممالك العريقة المجاورة، وتبناه وطبقه في السياق العربي، ولبّسه صفة "الخلافة"، واستمر هذا النظام الوراثي الملكي المتلبس بلبوس الخلافة والإسلام حتى سقوط الخلافة العثمانية.! 
 
الإمامة هي الأخرى، نظرية سياسية كهنوتية تمخضت عنها الصراعات التاريخية المبكرة على السلطة، ولا علاقة لها بالإسلام النبوي، ولا حاجة لتأكيد أن الإسلام لم يأتِ أصلًا لتتويج شخص، أو تسييد عائلة أو قبيلة معينة. 
 
لكن؛ هذه النقطة العظيمة -عدم تبني الإسلام لنظام سياسي محدد، وترك الرسول هذا الجانب مفتوحًا بعد وفاته- كانت لها ضريبتها الزمنية، وهي الفراغ السياسي في السلطة، الذي حدث بعد وفاة الرسول مباشرة، بما ترتب عنها من خلافات وصراعات سياسية تنامت واتسعت، واتخذت أبعادًا دينية، وكانت لها آثار وتداعيات خطيرة مزمنة.
 
هذا الفراغ اللافت قد يستدعي إلى الأذهان حديث ابن عباس أن الرسول قال وهو يحتضر: "ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده أبدًا"( )، ما يوحي أن الرسول كان يريد أن يكتب وصيته الأخيرة، وأن مضمون هذه الوصية الأخيرة هو ولاية الأمر من بعده، لكن للأسف قام عمر بن الخطاب بالاعتراض على هذا الطلب النبوي بحجة أن النبي كان يهذي وهو يحتضر "يهجر"!
 
لكن؛ بغض النظر عن مفارقة طلب الرسول كتفًا ودواة ليكتب عليها وهو  لا يعرف القراءة والكتابة حسب الإجماع المعروف، وعدم طلبه كاتبًا كما كان يفعل ذلك عادة مع النصوص القرآنية، كان بإمكان الرسول أن يقولها شفاهيًا أمام المهاجرين والأنصار، كما كان يفعل عادة في الأمور العامة الهامة. آخرها تعيين أسامة بن زيد قائدًا على جيش فيه كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار. 
 
كان يمكنه أن يفعلها خاصةً وقد تحامل على نفسه وخرج وصلى مع المصلين خلف أبي بكر، فأداء صلاة جماعة ليس أولى بجهده من كتاب يهدي أمة كاملة طوال التاريخ، ولن يتمكن عمر ولا غيره حينها من الاعتراض!
 
كما أنه فعلها في نفس الموقف حسب رواية عن ابن عباس نفسه، وهو يحدث عن "يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى حتى بل دمعه الحصى"، ثم ذكر الحديث السابق، وقال: "وأوصى عند موته بثلاث: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم". قال الراوي: "والثالثة خير، إما أن سكت عنها، وإما أن قالها فنسيتها"( )!.
 
ثمّ لماذا يؤخر الرسول الوصية بهذا الشأن إلى الساعة الأخيرة من حياته؟! ما الذي كان يمنعه من كتابة هذه الوصية بالغة الأهمية قبل سنوات؟ بل: لماذا لم تتنزل بها آية أو سورة قرآنية صغيرة.. أليست هذه المسألة التي تتعلق بإدارة مصالح أمة كاملة أهم عند الله من ذم أبي لهب، أو تقريع الوليد بن المغيرة المخزومي؟!
 
والواقع أن الرسول(صلى الله عليه وسلم) لم يكن لديه تصور ذهني جاهز لنظام سياسي من أي نوع، لأن هذا التصور لم يكن موجودًا في الثقافة والتقاليد السياسية العربية الماضية، هذا من جهته، أمّا من جهة السماء، وعلى افتراض أن الله مهتم بالأمور السياسية للبشر، فقد كان يعلم، وهو العليم المحيط، أن هذه المسألة زمنية متغيرة، وأن أي نظام سياسي لا بد أن يتقادم وتتجاوزه الحياة، وبعبارة جامعة: لم يتورط الإسلام بفرض نظام سياسي معين، أو تخصيص السلطة في فئة معينة، لأنها مسائل دنيوية نسبية.
 
في كل حال، إذا صح أن الرسول كان يريد أن يوصي وهو يحتضر، فلا بد أن وصيته كانت تتعلق بشيء يخص أملاكه وعائلته، كما يحدث للمحتضرين عادة، ولأهمية الوصية التي كُرست أهميتها بشكل كبير في النص القرآني والأحاديث النبوية.
 
تؤدي هذه النقطة بالضرورة للسؤال عن شرعية "أبي بكر"، قال فلهوزن: "كان أبو بكر وعمر يعرفان أنهما لم يتوليا الخلافة بحق شرعي، بل عن طريق الاغتصاب"( )، وهو ما يعبّر أيضًا عن رأي بعض الشيعة، لكن ما هي نوعية "الشرعية" التي يتحدث عنها فلهوزن هنا، خاصة وأنه يعرف، كما قال في كتاب آخر: أن "حق الأقربين في وراثة الرئاسة، وكأنها ملك خاص، لم يكن معترفًا به عند العرب، وبالأولى لم يعترف به الإسلام"( )!
 
والحقيقة أن مختلف الأطراف التي تصارعت حول ولاية الأمر بعد النبي، لم تكن تستند على شرعية، جاهزة سلفًا، لكن هذا لا يعني أنها كانت غير شرعية بمعيار الإسلام، فالإسلام ليس له معيار إلا في "أداء السلطة"، وهو العدل والإحسان، فكل دولة متصالحة مع شعبها، وتحكم بالعدل، هي دولة شرعية، بغض النظر عن شكل النظام الذي تتبناه.
 
لقد توفي النبي عن "جماعة" أسسها وترأسها بمعايير تتجاوز شرعية القبيلة وشرعية الدم، وشرعية النصرة، وقد صعد أبو بكر إلى السلطة بالشرعية التوافقية الدنيوية لهذه الجماعة الإسلامية القائمة أصلًا على رابطة الدين والعقيدة، لا رابطة القبيلة أو النسب، مع الأخذ بالاعتبار أن هذه "الجماعة" لم تكن في عهد النبي ولا عهد خلفائه تمثل مؤسسة ثيوقراطية منظمة نظريًا بأي شكل، كانت السلطة لله، وكان محمد يمارسها بصفته نبياً، ولم يجسر غيره من بعده أن يحكم بأي صفة شخصية لاهوتية، ولم يزعم خلفاء الرسول لأنفسهم قداسة من أي نوع، بعكس ما حدث لاحقًا من بعض الجماعات والفرق الإسلامية.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية