ذكرى الثورة الدستورية جزء من هوية نضالنا!
لم تكن الإمامة مجرد سلطة سياسية حاكمة للشعب؛ بل كانت منظومة صلبة تتحكم بالوعي والتفكير والسلوك والعقيدة، وتحول المجتمع إلى قطيع أعمى مستلب الإرادة والشك والخيال المتمرد على الواقع المظلم كالعصور الوسطى، لكن أن ينبثق عن هذا الحيز المغلق وعي سياسي طامح لجيل حر يغامر بكسر هيمنة المستبد، ويسعى للخلاص منه، فهذا المنطق كان أهم فكرة تجسدت لحظتها، وشرعت في افتتاح مشوار النضال ومناطحة الطغيان، لتؤسس لاستمرار مشروع التحرر المجتث للكهنوت.
تاريخ اليمن التحرري والنضالي بمثابة حلقة متصلة ومتسلسلة وتراكمات وطنية تجسدت فيها أفعال مقاومة الاستبداد عبر مراحل زمنية منفصلة، ويوم 17 فبراير يذكرنا بالثورة الدستورية 1948 التي كانت تأسيساً لتاريخ جديد يبدأ بتقويض صنمية الإمامة واستبدادها المطلق، وتغيير الثوابت القائمة التي تفسر علاقة الحاكم بشعبه، فمن نظرية الحاكم الفرد بتفويض إلهي إلى صياغة ميثاق وطني دستوري ينظم العلاقة ذاتها، ويمنحها بُعداً سياسياً لا دينياً.
لهذه الذكرى بُعد وطني اليوم، حيث تثبت -دون شك- يقينية مقاومة المشروع الإمامي، والتضحية في سبيل تلك الغاية والإخلاص لأجلها، فأحرار تلك الثورة وقادتها تحلوا بشجاعة مطلقة في الإطاحة برأس الطاغية يحيى حميد الدين من جانب، والانتقال لتشكيل سلطة دستورية، حتى وإن كان ذلك الفعل لن يظفر بالنصر، لكنه زرع بذرة زعزعة الإمامة في الوعي الاجتماعي اليمني الغارق في الجهل والخوف والعبودية والاستلاب.
لم يكن التنكيل الإمامي بقادة هذه الثورة ورموزها وأبطالها كفيلاً بانتزاع فكرة التحرر من وعي الشعب، وإخماد تمرده إلى الأبد، لكن ذلك التعزير الشنيع رسخ موقف الأحرار المناهض للإمامة، ووسع دائرته، وجعل موقفهم يتضاعف ويُترجم إلى أفعال، ويكبر الطموح منتقلاً من صياغة دستور إلى تغيير نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري، وتحقق هذا بعد عقد ونيف في السادس والعشرين من سبتمبر 1962 من الخطوة الأولى في السابع عشر من فبراير 1948.
اليوم نحتاج إلى استلهام تلك العزيمة القوية والتضحيات الجسيمة لأولئك الأحرار طالما وأن العدو ما زال من نفس الفصيلة، والفكرة الرجعية نفسها، وإرساء ملامح عصر الطغيان على واقعنا المعاصر ليتسنى للإماميين الجدد استعباد هذا الشعب وإلهاؤه بخرافات الولاية والدين والعقيدة، وتجريع المناوئين أصناف التنكيل.
فالرصاصة التي أطلقها الشهيد علي ناصر القردعي في رأس الطاغية أفسحت الطريق لنشوب ثورة الدستور، وثورة الدستور مهدت لانتصار الجمهورية، واستعادة الجمهورية اليوم تتطلب منا استمداد ذلك الإصرار، واستئناف ذلك العزم، واستنهاض روح المقاومة والتحرر، واستيعاب مخاطر التهاون مع السلاليين الجدد، أو الاستسلام للهزيمة، وتراجع الدفاع عن تلك المكتسبات الوطنية المتحققة طيلة العقود الجمهورية.
فالإمعان في قراءة التاريخ اليوم واستكشاف مضمرات تلك النضالات وثباتها، وتمثل ملامح القوة فيها والتخلص من منافذ الضعف والإخفاق سيمنحنا رؤية أعمق واستشعاراً أجد وإدراكاً أوسع لطرق نجاح معركتنا الوطنية الوجودية التي نخوضها في كل جبهات الشرف والبطولة، ونقدم فيها أرواح الأبطال.
تاريخ طويل زمنياً، واليمنيون يناهضون الاستبداد، فلا الإمامة تلاشت ولا المقاومة انتهت، تاريخ نضالي مستميت في دحض الكهنوت يثبت أن اليمنيين أكثر شكيمة مهما قست أفعال البطش، وما أعقب ثورة 48 من قمع ولّد انفجاراً جمهورياً، وما يرتكبه الحوثي اليوم سيعجل انقشاعه وسيجلب اجتثاثه، ويشد من عزائم الخلاص منه.