الرقصة.. وألف ليلة وليلة
(أعطوني جماهيركم المرهقة الفقيرة التي تتوق إلى التنفس بحرية، أولئك المساكين الذين لفظتهم شواطئكم المزدحمة).
عبارة منقوشة في تمثال الحرية
—
يترنح العالم القديم وتخور قواه وتموت الأحلام في الشرق وتخمد حرب التوابل ويتبدد بخور المعابد، ولم تعد تجذبنا قصص ألف ليلة وليلة أو مغامرات الشرق في أدغال أفريقيا أو قفار الصحارى أو دوي طبول آكلي لحوم البشر.
الأجيال ليست وحدها التي تشيخ، وإنما الدول والشعوب أيضًا، وتخرج من مسرح التنافس الحضاري وتتوارى عن الأنظار والمجد والشهرة وتهوي كما هوى جدار برلين، وصخرة إيزوس، وأنف خوفو، وحدائق بابل.. بل تأفل كما أفلت شمس (الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس)..
وأمام مثل هذا المشهد التراجيدي يقف السيد ترامب في الثمانين من العمر يرقص بحيوية ليس كالهنود الحمر، وإنما رقصته المشهورة المعبّرة عن عنفوان أرض الأحلام التي ما تزال كفاتنة تجذب بسحرها أفئدة شباب العالم منذ أيام السيد توماس جيفرسون ولم تشخ أو تظهر التجاعيد على وجهها.
لقد ماتت شهرزاد في أرض العرب وشبعت موتًا، لكننا نعيش اليوم مع شهريار الذي يرقص ليس في الصحارى، وإنما في أرض الأحلام وسط الثلوج والعمارات الشاهقة، أرض المعجزات والمستحيلات وكل الخيالات.
إنها أمريكا.. معبد الحرية الذي يحلم أن يحج إليه كل التائهين في أرض المعمورة، كما كان يذهب حجيج العالم القديم إلى المعابد والأديرة.
ووسط كل هذه المتناقضات، تقف أمامك الكاتبة مايا أنجلو وهي تقول بصوت مجلجل: (كل أبناء الله يحتاجون أحذية للرحلات)؛ بل نقول لها: ويحتاجون أحذية للرقص أيضًا.
أتذكر أن الكاتب الأمريكي جون ريد ألف كتابًا بعنوان (عشرة أيام هزت العالم) في بداية القرن الماضي، تحدث فيه عن الثورة البلشفية الروسية بزعامة لينين، غير أن رقصة دونالد ترامب وبعد مائة عام تقريبًا هي التي تهز العالم اليوم من جديد وتجعل البشرية أمام تحول وزلزال عظيم.
إلى الآن يبدو أن كل شيء أمامنا مرعبًا ومخيفًا، وكل سيناريو فيه يحمل تفاصيل تحبس الأنفاس أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة التي انتهت بسلام، لتنطلق رقصة ترامب في أول ليلة من ليلة وألف ليلة.
نحن أمام رقصة أيقظت التنين الصيني وأفزعت الدب الروسي وجعلت الديك الفرنسي يقف مذهولًا واربكت الطحان الألماني.. وهلمجرًا، ولا يمكن بعد هذا الضجيج أن يتوقف العزف أو الرقص؛ فالمسرح مفتوح واللاعبون يتراقصون بنشوة على ظهر مركب مهترئ يسير أعور وسط أمواج مضطربة، إنهم لا يدركون إلى أين يمضون.. وليس هناك في البعيد أثر لشاطئ قريب ترسو عليه أحلامنا.