حرية التفكير
جرت العادة سنويا في مثل هذا اليوم (3 مايو)، أي اليوم العالمي لحرية الصحافة الحديث عن مبادئ الصحافة وحريتها واستقلالها وأهدافها، كما تقوم منظمات غير حكومية - محلية وعالمية - بنشر حالات الانتهاك التي ترتكب بحق الصحفيين ووسائل الاعلام خلال عام.. بالنسبة لي سأدع هذا، لأعطي نفسي حق الكلام عن حرية التفكير والفكر.. وسوف أنقل للقارئ شواهد للجنايات التي ارتكبت بحق المجتمع العربي في التطور، نتيجة تقييد حرية التفكير، أو تجريم التفكير الحر، والتفكير غير المألوف، أو التفكير خارج الصندوق.
كتب الدكتور فؤاد زكريا مرة عن قانون الطاعة العربي، الذي يجعل الخلف يسير على نهج الخلف رغم أنفه، لكي يقال عنه أنه مطيع.. إذا جاء بفكرة جديدة قيل له: ما هذا، من أين أتيت بهذا الذي لا نعرفه، ولا هو من عادة أبيك وجدك ووو.. فأفضل أولادنا هم الذين يفكرون كما نفكر، ولا يخرجون عن السائد.. هذا القانون يلخصه بيت من الشعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
والأمر لا يقتصر على تأثير الأبوين أو الأقارب الآخرين، بل يمتد ليشمل النظام العقلي للأنظمة الحاكمة، وأنت لو دققت النظر رأيت رسوم هذا التأثير في طريقة مثقفي السلطات العربية الحاكمة، حيث يستجرون الفكر البقري دوما ويدافعون عنه، حتى بعد زوال الأنظمة التي دجنتهم أو كانوا في خدمتها.. أما الذين يخرجون عن المألوف أو يفكرون خارج الصندوق فهم موتورون، أو متمردون،، وفي أحسن حالات التقدير عصاة، وفي أسوأها ملحدون يقادون إلى محاكم التفتيش الجديدة لتدينهم وتقوم بمصادرة مؤلفاتهم.. بينما لو استعرضنا تجربة التطور العلمي والفلسفي والاجتماعي التي مر بها العالم المتحضر، وفي بالنا سؤال حول الذين خدموا البشرية، لاكتشفنا أن الذين أحدثوا ذلك، أو خدموا البشرية كانوا رجالا ونساء متمردين على ما هو سائد، أو خرجوا عن المألوف وفكروا تفكيرا إبداعيا.
حدث هذا حتى في مجال الكشوفات الجغرافية.. قبل ثلاثة عقود تقريبا قرأت في كتاب - لا يحضرني عنوانه- أن ملك إسبانيا أقام حفلا لتكريم كريستوفر كولومبس الذي يعزا إليه الفضل في اكتشاف العالم الجديد، وكان حول مائدة العشاء رجل تملكته الغيرة، فقال لكولومبس: لا أدري ما الأمر المذهل الذي قمت به لكي تستحق حفاوة الملك، فكل ما في الأمر أنك ركبت سفينة فسارت بها أمواج البحر إلى ذلك المكان، وأجزم لك أني لو فعلت الشيء نفسه قبلك كنت سأصل إلى العالم الجديد.. تناول كريستوفر كولومبس بيضة مسلوقة من أحد أطباق المائدة، وقال للرجل: هل تستطيع جعلها تستقيم على أحد طرفيها على هذه الطاولة؟ أخذ الرجل البيضة وجرب وجرب، وفي كل مرة كانت البيضة تتدحرج، وكف عن التجريب، فأخذ كولومبس البيضة منه ونقر رأسها على الطاولة فكسر ثم ركزها على ذلك الطرف المكسور.. قال له الرجل: لقد كسرتها، ولو كسرتها أنا كنت رأيتها مستقيمة على الطاولة أمامك.. رد عليه كولومبس: حسنا، ولماذا لم تفعل ذلك؟! الفكرة الغريبة تعني حدثا جديدا أو حالة تطور تحدث.. الذي يبدأ الفكرة الجديدة، وليس من يتصورها بعد ظهورها.
ما أكثر الأمثلة المشابهة لذلك في الماضي العربي، وأبسط مثال قول أبي العلاء المعري:
والذي حارت البرية فيه حيوان مستحدث من جماد
والمعري عند أقرانه وفقهاء عصره شاعر ملحد نظرا لكثرة أفكاره الغريبة، ومنها مضمون هذا البيت، فهو يرينا نظرية داروين قبل ولادة داروين بألف عام... وكان ابن رشد فيلسوفا مذهلا، فكاد له رجال دين واتهموه بالزندقة، ولما لم تفلح حججهم لدى الخليفة الأموي في الأندلس، اقتطعوا سطرين من ورقة أحد تآليفه، وفيهما: وقالوا إن الزهرة أحد الآلهة.. وكان الرجل يتحدث عن فلاسفة اليونان في الحقيقة، لكن رجال الدين ذهبوا بالقصاصة إلى الخليفة، وقالوا له اقرأ ما يقول ابن رشد، إنه يدعي أن الزهراء إلهه، وهذا بسبب تدليلك له يا مولاي! وتحت ضغطهم أمر بحرق كتب الفيلسوف المبدع وسط مهرجان بمدينة قرطبة، وخسر الفكر العربي عقلا فذا كان لديه أجد أو أحدث الأفكار.
بقي أن نختم بما ذكره شهاب العسقلاني في كتابه المسمى لسان الميزان، قال إن الفيلسوف بشر بن المعتمر مؤسس فرقة المعتزلة في بغداد (توفي عام 210 هجريا) كان يقول: إن الإنسان يقدر أن يجعل لغيره لونا وإدراكا وسمعا ونظرا بالتوالد إذا عرف انتظامها، أي قوانينها العلمية.. ألسنا هنا أمام بواكير علم الاستنساخ الذي لم نعرفه إلا مع ظهور النعجة دولي في العام 1996؟ هذا من ثمار التفكير الحر أو ثمار الخروج عن المألوف، لكن الذين كانوا يجرؤون على ذلك يكفرون ويعصف رجال الدين والسلاطين بعدهم، بعقولهم وبمصائرهم.. لذلك ينبغي للمثقف أن يضع حق الإنسان في حرية التفكير في رأس قائمة أولوياته، ودائما.