استيلاء الحوثيين على عاصمة الجوف وتأمينهم صنعاء من تهديدات نهم والوضع الحرج في مارب، كلها تنبئ بمشهد عسكري يخل بالمعادلة الجمهورية الإمامية لصالح الأخيرة. هذا المشهد المعتم ليس نهاية القصة، فمع الأمس البعيد والقريب تشابهت الأحداث وكتبت نهاياتها منعطفات عسكرية أدخلت البلد في إطار الزمن وقوة حركة العصر.

 

بالعودة إلى الوراء نصف قرن، كانت المناطق اليمنية، شمالا، تخوض حربا في مكوناتها المحلية بين الجمهورية الواقعة في قلب العالم المعاصر، نظريا على الأقل، والإمامية الوافدة من زمن آخر.

 

مثل اليوم، عانت الجمهورية وقتها من إنجازات وإخفاقات عسكرية، ومن تعدد قواها، سواء على المستوى السياسي، ما بين ثوري ومساوم، وما بين حراكي (حركة القويين العرب) وناصري وبعثي وإخواني، ترافقا مع تفكك اجتماعي قبلي، وتعدد في التشكيلات المقاتلة من حيث التكوين والولاء، والافتقار إلى قيادة واحدة، وفي كثير من الأحيان كان الجمهوريون يسيطرون على مساحات محدودة تتركز في المدن الرئيسية بموازاة سيطرة واسعة على الأرض من قبل الإماميين الملكيين.

 

في 1967 اتفقت الأطراف الخارجية المساندة لمكونات الصراع المحلية على تسوية سياسية في اليمن، وبدت الجمهورية على حافة خطر حقيقي، لا سيما مع وجود مخرجات تفاوضية سابقة بصيغة "دولة إسلامية" كحل وسط، لا جمهورية ولا ملكية. وفي الشق العسكري انسحب الجنود المصريون من اليمن فباتت الجمهورية مكشوفة سياسيا وعسكريا، ما شجع الملكيين على حزم قرارهم والسعي لإنهاء الحلم الجمهوري بمحاولة إسقاط صنعاء، فعلا قاموا بحصار السبعين يوما، في مشهد ظاهره أن الجمهورية تلفظ أنفاسها الأخيرة.

 

ما حصل أن معركة السبعين قلبت المشهد والمصير رأسا على عقب وكانت حاسمة في اتجاه الانتصار الجمهوري، ولم يتبق للإمامية بعدها إلا جيوب يائسة قضي على آخرها عسكريا في العام 1970.

 

ليست الليلة مختلفة كثيرا عن البارحة، ويبدو أن جمهورية عشرينيات القرن الراهن ينقصها معركة فاصلة كالسبعين في ستينيات القرن الفائت، لكن في الحديدة الساحلية أكثر منها في صنعاء لأسباب سياسية عديدة منها ما يتعلق بعدم التوزع المتوازن للنفوذ على الأرض بين المكونات الجمهورية وميول الثقل من حيث المساحات نحو قوى هي أقرب للمساومة منها للمواجهة، إضافة إلى ترتيبات، إقليمية ودولية ومحلية لازمة سياسيا لمرحلة ما بعد الحرب، تخدم الاستقرار الداخلي والإقليمي.

 

كما أن هناك أسبابا عسكرية خاصة بوضعية الحديدة كأهم منفذ لتلقي الحوثيين الدعم الإيراني واستعدادهما للاستماتة والتضحية بالغالي والنفيس لإبقاء جنوب البحر الأحمر ورقة ضغط أمنية واقتصادية على أمن ملاحة وتجارة العالم، أضف إلى ذلك أن الحديدة منطقة سهلية مكشوفة لفاعلية الطيران الحربي، ومجهزة بقوة عسكرية يمنية مدربة ومنظمة تضم قواما عسكريا حقيقيا، يمكّن من بناء تخطيط عسكري سليم، وقادر على مواجهة الكثافة البشرية لأسلوب القتال الإيراني الحوثي.

 

بالتأكيد الساحل الغربي مكبل بقيد سياسي مهم لجهة الحسم العسكري بفعل اتفاق ستوكهولم والقرار الأممي المرتبط به، غير أنه تبقى هناك صيغ ما ليس جر الحوثيين إلى خرق جوهري، يحفزه زهو الانتصار في عدة جبهات، إلا إحدى الصيغ الممكنة.

 

الانتصارات والانكسارات واردة، بيد أن المعارك الفاصلة مهمة في تغيير المعادلات العسكرية وبالنتيجة السياسية، ومثلما كانت معارك السبعين وكريتر حاسمة في الستينيات، وكما كانت معركة عدن في 2015 محورية في تحرير معظم المناطق الجنوبية في أقل من شهر، فإن معركة حاسمة في الساحل الغربي من المرجح أن تغير المعادلة في المناطق الشمالية إلى حد كبير.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية