كثيرون يرفعون شعارات الثورة والجمهورية والوحدة والحرية والعدالة، ولكن ما يُفتقد في الخطاب العام هو الصوت الذي يملك الحق في تمثيل هذه القيم، أي صوت الشعب الذي صاغ ثورة 26 سبتمبر وأعاد تعريف الوطن، وصوت من جسّدوا معانيها في ساحات القتال ومعارك البقاء.. فالجمهورية لم تكن لحظة انفعال تاريخي، لكنها لحظة تأسيسية نقلت اليمن من حكم الإمامة المغلق إلى أفق الدولة الوطنية الحديثة، حيث المواطنة والمساواة، وحيث الجيش الشعبي تحوّل إلى حامل للشرعية.

إن محاولة الالتفاف على هذه الشرعية ليست جديدة؛ فمنذ بدايات الدولة الجمهورية، واجهت محاولات منظمة لتقويضها عبر التشكيك في مؤسساتها– خصوصاً المؤسسة العسكرية والأمنية التي مثّلت الركيزة الأساسية لحماية الثورة والجمهورية– فمن حصار السبعين يوماً إلى قوافل المدد الشعبي، أثبت اليمنيون أن الجيش هو تجسيد لالتحام الشعب بمشروع الدولة الوطنية.. ولهذا كان استهدافه هو المدخل لكل محاولات الردّة التاريخية.

لقد تكررت في مراحل مختلفة، حملات إعلامية وسياسية، بعضها مدعوم خارجياً، صُممت لتصوير المؤسسة العسكرية وكأنها بؤرة للعنف والإرهاب، بهدف عزلها عن عمقها الشعبي.. وهذه الحملات لم تكن بريئة، فقد سعت إلى إقناع مؤسسات دولية بفرض قيود على الجيش اليمني: التقليص، وفرض التقاعد المبكر، وخفض الدعم، والتشكيك في قياداته، وآخرها الهيكلة؛ الهدف كان واضحاً: تفكيك الضامن الأخير لوحدة البلاد ولجمهوريتها.

إن هذه الديناميات تأخذ معناها الأوضح اليوم في ظل صعود الحوثيين؛ فالجماعة ليست مجرد حركة تمرد عسكرية، لكنها مشروع أيديولوجي يسعى لإعادة إنتاج الإمامة في صيغة جديدة، متكئاً على الدعم الإيراني، ومحواً لرمزية سبتمبر لصالح "ولاية الفقيه" في نسخة يمنية؛ فالصراع لم يعد على سلطة سياسية داخل الدولة، بل على تعريف الدولة نفسها: هل هي دولة وطنية جمهورية، نشأت مع سبتمبر وأُعيد تأكيدها في مسار الوحدة، ولاؤها للمواطن.. أم هي كيان ما دون الدولة، طائفي سلالي محكوم بمنطق الغلبة والعصبية والولاء الخارجي العابر للحدود؟

إن محاولات الحوثيين طمس ثورة سبتمبر تتجلى في خطابهم، في ممارساتهم، وفي إعادة صياغة التاريخ بما يجعل الجمهورية قوساً اعتراضياً لا بد من تجاوزه... لكن هذه المحاولة لا يمكن فهمها إلا ضمن استراتيجية إيرانية أوسع، توظف الحركات الطائفية لإعادة دمج بلدان عربية في فضاء تبعية سياسية وعقائدية؛ وهنا يتحول اليمن من ساحة نزاع داخلي إلى ساحة صراع إقليمي ودولي.

ومع ذلك، فإن المجتمع اليمني أثبت أن ذاكرته الجمعية أقوى من محاولات الطمس؛ فالجيش اليمني، بتركيبته التاريخية التي جمعت في خنادقه أبناء مختلف المناطق—ومن تعز وصنعاء وإب والبيضاء إلى يافع ولحج وبيحان ورداع و....— كان بوتقة لصهر الهوية الوطنية؛ لقد عُمّدت هذه الأخوة بالدماء في ساحات القتال، وتحولت إلى سند للوحدة قبل أن تتحقق على الورق؛ ومن يتأمل قائمة شهداء سبتمبر وأكتوبر، من النعمان إلى الزبيري والإرياني وراجح لبوزة، يدرك أن الجمهورية لم تكن مشروع منطقة أو طائفة بل مشروع وطن كامل.

الحياة العسكرية نفسها شكّلت مدرسة في القيم الجمهورية: الانضباط، والمساواة، والتضحية، والعمل الجماعي.. من يقف في نوبة حراسة يعلم أن يقظته تحمي حياة زملائه، وأن تهاونه يفتح ثغرة على الجميع؛ هذه الروح الجماعية هي جوهر الديمقراطية بمعناها الأصيل، حيث يكمّل الأفراد بعضهم بعضاً، ويصبح الوطن أكبر من أي ولاء جزئي؛ ولعلها هي نفسها الروح التي جعلت صناديق الاقتراع، على تواضعها، امتداداً لمعركة الحرية، لا مجرد آلية إجرائية.

إن التشكيك في هذه المؤسسة الوطنية، أو محاولة استمالتها بالمشاريع الضيقة والتشظي المتعمد، لا ينطوي فقط على احتقار لوعي الجنود والتربية العسكرية، بل على تجاهل للبعد القيمي الذي يجعل من الجيش اليمني مؤسسة جمهورية بامتياز، لا مليشيا إرهابية مارقه؛ وقد أثبتت التجربة أن من يجود بدمه لا يمكن أن يُشترى بمال.

من هنا، فإن المعركة ضد الحوثيين ليست مواجهة عسكرية مع جماعة متمردة فقط، لكنها صراع على الذاكرة والمعنى؛ إما أن تبقى الجمهورية كعقد اجتماعي يجمع اليمنيين على المساواة والسيادة الوطنية، وإما أن يُعاد إدخال البلاد في منطق العصبية والطائفة والتبعية الخارجية.. وهذا ما يجعل الدفاع عن المؤسسة العسكرية والأمنية دفاعاً عن سبتمبر نفسه، وعن إمكانية إستعادة الدولة.

في النهاية، تبقى الثورة مشروعاً مستمراً لا مجرد ذكرى، ويبقى الجيش حصنها الحصين، ويبقى استهدافه مدخلاً لتقويضها.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية