نت هذه الجملة كفيلة بجعلي أنشطر ملايين الدموع وأنا في مدينة المخا، وأقرر الصعود إلى تعز، وألقيت على عمتي نظرة أخيرة قبل مغادرتها صباحاً إلى البلاد حيث جذورها والذين تحب، وسأملأ كفها بالتحيات لتحملهن إلى أبي وجدتي وجدي في المقبرة، فأنا لا أستطيع الذهاب معهم إلى بلادي، وخطرت في بالي فكرة تشييعها والخروج مستأمناً بجنازة ثم العودة لولا استحالة نجاتي، فهناك يفغر القيد مقابضه، فلا عهد ولا ذمة للكهف، وسأشيع بعضي من البعيد.. 

 

فزكات ليست مجرد عمة، 

عماتي كلهن لسن عمات عابرات، فهن آباء وإخوة وهن عائلة من الأعماق وهن بنات الشيخ عبدالجليل سعيد بن سعيد المخلافي وأركان للعائلة الماجدة، 

هن أبي وجدي والتاريخ المشكل من العظمة، وشاهدات وماجدات وكاتبات الوقت بكل شموخه وبفرحه وبكاه، وعاصرن المراحل كلها وكافحن بنات المشيخ الماجد وصرن ذوات يشهد لهن بالعنفوان ويجمعن مالم يجمع، وتدور حولهن الأبهة، ولهن مقام ومقال رفيع وعال وهذه ثاني عمة من عماتي أفقدها، ومفتتح البكاء الطويل.. فعماتي هن بقية الجلال والوصل الباذخ بين ما مضى وما سيأتي، ما كان والذي سيكون، وجذور الحكايا والقصص النبيلة. وزكات العمة الكبرى، وأمنا الكبرى، وأول حكاوينا في مقتبل هذه الدنيا والقاطنة في المدينة منذ لا أذكر، وكلما أتت البلاد كنا نشعر بالضياء ونرتص حولها لنسمع القصص، عن جدي وجدي، عن الشيخ سعيد بن سعيد؛ فهي تتذكر كل شيء، وعن عبدالجليل بن سعيد وتؤدبنا بأدبياتهم، تحدثنا عما يجب أن نكون عليه، وكانت تبكي كلما تذكرت جدها وأباها، فهي مدرارة للدمع، وفي صدرها تنور فقدان.. 

 

كنت صغيراً وكلما رأتني تبكي، ولا أدري لماذا، فكبرت وأدركت أنها تبكيني، أنا اليتيم الصغير، تبكي على أبي، الذي مات ولم أبلغ الخامسة من عمري، وهي الوحيدة التي قالت لي أنت تشبه أباك رغم أن أبي جميل الطلعة، أبيض وأحمر الوجه، يضيء كالقمر، وأنا هذا الوجه القبيح، أغبر أسمر، لكنها ترى أبي في وجهي وبوجودها عاش أبي رغم موته، فالراحلون تبقى حياتهم في حياة إخوتهم وأخواتهم، وعائلاتهم، وبموت جدتي فقدت نصفاً من أبي والآن بعضاً من أبي أفقده بموت عمتي، وكلما أخذ الموت واحداً من دم أبي أفقد أبي مرة أخرى، وقد فقدته بموت عمي محمد، وهأنذا أعيش مرارة فقد أبي فأنا الطفل الصغير الذي كان يضحك أثناء دفن والده، أبكيه الآن وقد كبرت فمن فاته بكاء أبيه صغيراً لا بد وأن يفعل، وهأنذا أفعل بعمتي زكات.. 

 

قبل أسابيع، كان زواج محمد، حفيد عمتي الأول، وعجزت عن العودة للمدينة ومشاركة أسرتي الفرحة، وللقدر كلمته وكأنه يعاقبني ويقول لي: ستأتي.. إما بحياة أو بموت، وقد اختير لي الصعود بالموت.. وأجهل لماذا أعمدة الأسرة يزوجن الحفيد الأول ثم يغادرن الدنيا، فجدتي ومربيتي زوجت أخي جبران، وبعد أشهر غادرت هذا العالم.. وهاهي الأخرى عمتي، تزوج حفيدها الأول وهاهي غادرت! 

 

والحرب مأساة تهلك الناس، فعمتي بالمدينة وأعمامي وعماتي في صنعاء وفي الجزء الآخر من تعز، تشتاق لهم ويشتاقون لها، والحصار لعنة يفصل بين الشيء الواحد، ومنذ سنوات لا أحد يرى الآخر، قبل سنوات كثيرات كانت عمتي (رقية) تقول: أشتاق لأختي زكات وأخاف تموت.. هاهي ماتت.. ولم ير أحد الآخر.. ماتت ولم تشاهد قريتها ومنبتها ولو مرة واحدة، فهذا هو الحصار الذي يشظي القلوب وهذه هي الحرب التي تأخذ أحبابك قبل الموت، ومن بعده.. 

 

صدقوني، العائلات الكبيرة يتناقصن بموت النساء، وليس بالرجال، للرجال أخلاف، فالنساء هن الوعاء، وهن الينابيع الدافئة.. والضامن الوحيد لبقاء الأواصر، فلا تستقلوا بالعمات والجدات ولا تهونوا من الخالات والشقيقات، لسن مجرد أرقام، إنهن الشجرة، هن الجذور والبذور وهن الأغصان، وهن لب العائلة، دونهن العائلة صفر. 

 

الموت يخيفني، وفقدان الذين أحبهم، ودوماً أحدث الملاك ليأخذني قبل الذين أحبهم، وموت الكبار عندي أفجع من موت الصغار فخسارة الجيل الذي ربانا هي الخسارة، ليرحم الله كل موتانا، الرحمة والعزاء لعمي الشيخ محمد وأولاده ولأعمامي ولكل العائلة، فالموت حق.. الفاتحة.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية