ألم تحررنا الجمهورية من "موقعة الجمل"!!
مِن المؤكَّد أن علي بن أبي طالب ليس الغرض الحقيقي من كل ما يقال ويُكتَب هذه الأيام عن علي بن أبي طالب، مدحاً أو قدحاً، تعظيماً أو تبخيساً.
الغرض شيء آخر متعلق بالسياسة اليمنية الراهنة وأطرافها.
من الناحية المعرفية، يكون المرء مُقْنِعاً أكثر إذا لم يكن في ما يكتبه أو أو يقوله عن علي بن أبي طالب متأثراً إمّا بالخصومة مع الحوثيين أو بالرغبة في مجاملتهم وإرضائهم.
ومن الناحية الأخلاقية والوطنية، أرى أن الفرق منعدم بين من يستحضرون رموزاً بعينها من الماضي الإسلامي المشترَك، سواءً كان هذا الاستحضار بلغة التعظيم المُغرض سياسياً، أو بلغة الإساءة المُغرضة سياسياً أيضاً!
مع أن اللوم الأكبر يجب أن يقع على الباعث الأوّل لهذا السجال بمفعوله الانقسامي المزعج.
فإذا كنتَ في تعظيمك لـ علي بن أبي طالب تعظّم نفسك كجماعة من المفتَرَض أنها تنتمي إلى الحاضر،
وإذا كنتَ تحاول استخدام اسم "علي" ومكانته لاضفاء الشرعية على وضعك السياسي وعلى أعمالك ومكاسبك التي ليس لـ علي بن أبي طالب أيّ دور في حصولك عليها،
فإن بعض خصومك أو المتضررين منك والمنكرين لأعمالك قد تدفعهم الخصومة والعجز وقلة الحيلة إلى الرد عليك بنفس أسلوبك لكن في الاتجاه المضاد.
فيغدو حديثهم عن علي بن أبي طالب حديثاً حانقاً غاضباً يُراد به الاساءة لك أنت، والانتقاص منك أنت بالذات، حتى وإن بدا أنهم يريدون الانتقاص من علي بن أبي طالب.
نعم هذا خطأ، لكنه خطأ يشترك فيه الطرفان.
في البداية، هناك جماعة معينة تسبَّبتْ -بالخطاب والعمل- في خلق مناخ عام يقود مباشرةً إلى الخوض من جديد في وقائع تاريخية وشخصيات من الماضي الإسلامي السحيق، تلك الوقائع والشخصيات التي لطالما أثارت الانقسام حولها على مدى أربعة عشر قرنا.
وتنوعّتْ الاستجابات لهذا الحافز، بعضها اتخذ شكلا من الخطاب التاريخي المضاد حول نفس الوقائع والشخصيات، رغم أن فائدة هذا النهج مشكوك فيها.
وفي مناخ كهذا، فإن من يعرِّف نفسه بأنه "هاشمي" "علوي"، ثم ينخرط في تبجيل علي بن أبي طالب أو في الدفاع عنه، سيبدو في نظر الآخرين وكأنه لا يتكلم عن علي بل عن نفسه، وأنه يريد من خلال ما يقوله عن علي إما الإشارة إلى استحقاق يخصّه أو التباهي على الآخرين بالأصل العريق وشرف المحتد.
هنا العُقدة، حيث يختلط الذات بالموضوع، والماضي البعيد بالحاضر الراهن.
ثم يصبح كلّ شيء مُشبَعاً بالدلالات غير المُستَحَبَّة، وما من طريقة قد يتحدث بها المرء عن علي بن أبي طالب إلّا وتحمل إشارة أو مغزى سياسيا مرتبطا بالحاضر.
بل لقد وصل الحال بالبعض أنهم لم يعودوا يستسيغون امتداح علي إلا عندما يأتي من أشخاص لا يعتقدون أن عليّاً جَدَّهم.
حتى صيغ التبجيل التي يتم إرفاقها مع اسم علي بن أبي طالب، تَحوَّلتْ اليوم بفعل التسييس المُفرِط إلى علامات قد يستدلّ من خلالها الآخرون على أين تقف من الصراع:
مثلاً، من يقول "الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه" أو "أمير المؤمنين عليه السلام"، يعطي انطباعا أوّليا بالاختلاف عمن يقول "الصحابي علي بن أبي طالب رضي الله"!
لهذا تجنبتُ هنا استعمال أي صيغة منها، بما أنني فضّلتُ تناول المسألة بتوازن واعتدال.
هل كان يجب لكل هذا أن يحدث من جديد؟
ألم تكن الجمهورية قد حرَّرتنا من هذا كلّه؟
ألم تكن بمثابة الاسفنجة التي أوكلنا إليها تجفيف المستنقع؟
بلى، فعلتْ ذلك وأكثر:
فقد رَفعَتنا الجمهورية على مستوى الوعي والإرادة وجعلتنا متزامنين مع العالَم الحديث.
كانت الجمهورية قد نجحتْ -مبدأياً على الأقل- في الأخذ بأيدي اليمنيين بعيداً عن إشكالات التاريخ الإسلامي المتنازع عليها، وأسَّستْ لأول مرة إطاراً معرفياً وقانونياً للدولة وللشرعية ينطلق من أرضية وطنية محلية منفصلة عن الرصيد المرجعي الذي كانت تستمد منه الدول والامبراطوريات الإسلامية ما تحتاجه من المنطق لتبرير وجودها.
امتلكنا المعالم العريضة لشخصيتنا الوطنية الجمهورية،
امتلكنا صيغة ثمينة للوجود المشترَك،
صيغة متحّررة -مبدأياً على الأقل- من الضرورة التي كانت تقضي بإسناد كل شيء في السياسة إلى التاريخ المقدَّس كمرجعية وحيدة لتقرير ماهية الوضع المشروع وغير المشروع.
اعتنقنا معايير جديدة لـ الصوابية السياسية تعتمد على العقل والتجربة والمصلحة العامة على النطاق الوطني اليمني المحدَّد بالأرض لا بـ"الإيمان" ولا بـ"المذهب".
ومن أجل تبرير شيء أو الدفاع عن شيء، لم نعد بحاجة للإحالة التاريخية إلى عثمان أو علي أو الأشتر أو أبو موسى الأشعري.
وها نحن ننسحب من جديد، على مستوى الوعي والإرادة والخطاب، من الزمن الجمهوري إلى زمن موقعة الجمل.
يا له من نكوص فظيع ومخجِل!
•صفحته على فيسبوك