سلسلة حلقات تنشرها "وكالة 2 ديسمبر"، من ملف بعنوان (خرافة الولاية)، وفيما يلي الحلقة الثانية..

 

لعل تصور معايير التفضيل لدى المنتسبين لأي دين ما هو إلا تعبير منبثق عن تصور هؤلاء للإله، فاعتقد كل مجتمع ديني أفضليته حيال غيره من المجتمعات، وأن هذه الأفضلية هي منحة إلهية خاصة، تظهر الإله وكأنه متحيز وغير محايد إزاء بني البشر.

 

بيد أن المنطق الديني القرآني لا يرى التحيز الإلهي غير الموضوعي لفئة بشرية دون غيرها باعتبار أنه ابتداء زود البشر عموما بآلة العقل، ثم أسند العقل بالوحي والنبوات أو الرسالات، يقول تعالى "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ" يونس 47، ويقول "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا" النحل 36، ويقول " ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا..." المؤمنون 44، ويقول " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا " الإسراء 15. ويقول "إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ" الرعد 7.

 

ومن هنا يظهر العدل واللطف الإلهيان بكل البشر والمجتمعات دون تمييز أو محاباة لهذه أو تلك من الأمم أو المجتمعات، وإذا كان هناك من تفضيلات ما، لاحقة فلا تخرج عن العدالة الإلهية التي تجعل عملية التفضيل قائمة على أساس موضوعي هو بصورته الإجمالية في مختلف الأديان، مدى التزام الفرد والمجتمع بتعليمات الدين المرسل إليهم عبر نبيهم.

 

ذلك المعيار هو ما يعبر عنه القرآن الكريم بالتقوى، يقول تعالى "وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ.." أعراف 26، ويقول "فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى" البقرة 197، ويقول " إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ " الحجرات 13. والأكثر من ذلك أن القرآن استهجن ادعاءات التميز والخيرية بقوله "فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ" النجم 32. وقوله " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا" النساء 49، وتؤكد الآية الأخيرة أن التزكية إلى جانب اختصاص الله بها قائمة على أساس العدالة وعدم الظلم.

 

ومن المعلوم أن رأس الشرور إبليس خالف أمر الله بالسجود لآدم وبالتالي استحق الطرد من الرحمة بسبب تجاوزه معايير التفضيل الإلهي إلى معيار مادة الخلق، فيقول القرآن على لسان إبليس " قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ " الأعراف 12. ويقول " قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ" الحجر 33.

 

وإذا كانت المفاضلة على أساس مادة الخلق مرفوضة قرآنيا، فالأولى رفضها في محاولة وضع ميزات تفاضلية على أساس عضوي في مادة خلق واحدة، وبعبارة أخرى البحث عن خصائص جينية تؤسس للتمايز بين البشر لأن اختلاق معيار التميز الجيني أو العضوي باطل في مبتدئه لوحدة مادة الخلق والتناسل البشري من مصدر واحد، يقول تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً" النساء 1. ويقول "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ " الأنعام 98. ويقول "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ " الأعراف 189.

 

ومن عجائب القرآن أنه أظهر بطلان المفعول العضوي أو الجيني في مسألة التفضيلات الإلهية بذكر قرابات من الدرجة الأولى -وفق المصطلحات التشريعية والقانونية- لأنبياء موضحا بجلاء أن القرابة العضوية لا تغني شيئا طالما خرجت عن معيار الالتزام الديني (التقوى)، ففي قصة نوح ذكر ولده، وإبراهيم ذكر والده، ولوط ذكر امرأته.

 

وفي الحالات الثلاث لم تفد قرابة الدرجة الأولى من الأنبياء الثلاثة في تخفيف الاستياء الإلهي. كما لم تشفع القرابة العضوية لأبي لهب عم خاتم النبيين.

 

ما سبق لا يعني أن القرآن أغفل العلاقات العضوية بين البشر، بل أكد على المصاحبة بالمعروف والإحسان حتى مع الخروج الكلي عن الالتزام الديني، أي مع الكفر، وكذلك أكد عليها إضافة للرابط الديني ومعه في مواضيع منها ما يتعلق بالوراثة أو الصلات المالية، إنما يعني أن أصل التفضيل الإلهي كأحد تجليات العلاقة بين الله والبشر هو اختصاص إلهي وفق معيار عادل يقوم على أساس الاقتراب أو الابتعاد من التعليمات الإلهية. حسب ما بين القرآن.

 

الحلقة الثانية من ملف تنشره وكالة 2 ديسمبر
لقراءة الحلقة الأولى.. "من هنا"

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية