صناعة التاريخ.. صالح مثلاً
الرجال هم الذين يصنعون التاريخ، وليس العكس، يتجلى ذلك بوضوح في الموضوع الذي أكتب عنه الآن.
قبل العام 2017، كان تاريخ الثاني من ديسمبر يوما عاديا بالنسبة لأغلب الناس، كل سنة من السنوات التي مضت كان فيها 2 ديسمبر كيوم مثل سائر الأيام، على الأقل بالنسبة لنا نحن اليمنيين، لكن يوم 2 من ديسمبر في العام 2017 أصبح يوما مختلفا ، أصبح تاريخا مهما ، ولحظة فارقة في تاريخ اليمن المعاصر، أصبح يشبه يوم الـ 26 من سبتمبر والـ 14 من أكتوبر والـ 30 من نوفمبر وهي أيام تعني لليمنيين الكثير .
في هذا اليوم دعا الرئيس علي عبدالله صالح إلى انتفاضة شعبية بوجه الجماعة الحوثية المارقة ، ولأنه علي عبدالله صالح الذي لا يحب الدم ولا العنف ، فقد أجل هذه الدعوة مرارا رغم تفويض اليمنيين له لقيادة ثورة ضد الحوثيين الذين انقلبوا عل السلطة وعملوا على تدمير مؤسسات الدولة ونهبوا وأحرقوا وقتلوا، ولأنه علي عبدالله صالح الذي ينتمي للناس ولهذا التراب ، ويحترم تاريخه ومنجزاته ، فقد تضاعف خوفه على ما تبقى من الجمهورية ، فدعا اليمنيين إلى حماية جمهوريتهم والدفاع عن مكتسبات ثورة الـ26 من سبتمبر ، وعدم الاعتراف بجماعة الحوثي ، أو اتباع أوامر قادتها ، وبشر الجيران بدعوة نظيفة وصادقة لوقف الحرب وفتح صفحة جديدة نزيل فيها ما التبس على الجميع من سوء فهم وتقدير أتاح لجماعة متمردة –ذات غفلة - أن تسيطر على كل شيء ، وأن تدخل البلاد في حرب غير عادلة أكلت الأخضر واليابس .
يقول البعض ان قرار الرئيس ربما يكون قد جاء بعد فوات الأوان، لكن لسان حال صالح يقول: إن تجنب سفك دماء اليمنيين مقدم على أي اعتبار ، ولذا فقد تحمل ضغوطا هائلة منذ انقض الحوثيون على السلطة ، فقد راق للأطراف السياسية الحاضرة في المشهد اليمني أن تعتبر صالح "خصما " ومشجبا لأخطائهم طوال الوقت ، وفيما كان الرجل يرى الدولة التي أقامها تنهار ، والجمهورية تتهاوى ، وقف وحيدا في وجه الكارثة .
ربما أخطأ صالح حين تناسى خطر الحوثيين على حياته هو شخصيا ، لكن ماذا نصنع مع رجل لا يهاب الموت ، رجل يعيد أمر حياته وموته ،دائما، لله عز وجل ، ويؤكد أنه قابل الموت وجها لوجه ست مرات أو أكثر كان آخرها التفجير الذي استهدفه أثناء صلاته بجامع دار الرئاسة.
ماذا نقول لرجل شجاع يخبرنا مرارا وهو يبتسم إنه قد عاش عمره الحقيقي وأن ما تبقى ليس سوى ربح وزيادة؟!
ماذا نقول لصالح حين يخبرنا أنه فقط، يتمنى أن يموت شهيدا في سبيل قضية عادلة، ثم ماذا نقول – أخيرا -عن رجل واجه الموت شامخا، راضيا، يدافع عن نفسه، وبيته وأهله وبلده، فمات شهيدا كما أراد؟!
وعودا على بدء فإن اللافت للاهتمام أن الرئيس الشهيد عندما دعا إلى انتفاضة شعبية في خطاب بثته قناة اليمن اليوم يوم 2ديسمبر، لم يتطلب الأمر غير ساعة إلا ربع ، بعدها كان اتباع الحوثي قد اختفوا وكأن الأرض ابتلعتهم دون سابق انذار ، فخلت الشوارع منهم والمؤسسات ، وتحول من بقي منهم إلى أسلوب الثعالب حين تتظاهر بالموت في لحظات الخطر، ولعل عبدالملك الحوثي نفسه كان كذلك عندما ظهر في خطاب متلفز يستجدي الرئيس صالح ويستجدي الناس !
لقد كان الحوثيون يحتالون، لكن المؤكد أن قلوبهم امتلأت رعبا في ذلك اليوم.
قال صالح كلمته ثم مضى إلى بيته وسط العاصمة يتفقد تحصيناته، ويحاول إقناع عدد من حراساته بالمغادرة، ثم يعود إلى الفناء الداخلي ليكرر لعارف الزوكا أمين عام المؤتمر، وعدد آخر، طلبه بان يغادروا، مؤكدا لهم أنه الوحيد المعني بالدفاع عن بيته ونفسه، لكن دون جدوى! لقد قرر هؤلاء ان يشهدوا صلاة الفجر معا سواء كان ذلك في الجامع الصغير الذي يتوسط منزل الرئيس أو في مكان اخر يختاره الله لهم!
نجح الرئيس فيما يبدو في اقناع عدد قليل من الحاضرين بالمغادرة، مستندا على فكرة ان الانتفاضة ينبغي أن تستمر.
إنّي هنا استحضر في مخيلتي ما يقوله المنطق، بالنظر إلى ما حدث لاحقا، ففي حين شعر اليمنيون باليتم، بعد معرفة خبر استشهاد الزعيم، وبينما سرت في الآفاق إشاعة استشهاد طارق صالح، فشعرت بالقهر مرتين ، وبمرارة الحزن ألف مرة، تسربت المعلومات عن ان العميد طارق لم يمت ، وانه بعيد عن قبضة الحوثيين الذين نبشوا بيوت الناس اياما واسابيع بحثا عنه .
حين ظهر طارق في عزاء الشهيد الأمين عارف الزوكا بشبوة، تغيرت المعادلة تماما واختلفت الحسابات لدى عبدالملك وزمرته، وبدا أن الله تعالى أراد لليمنيين بابا آخر للخلاص، إذ لا منطق في أن يسود الحوثيون في هذا البلد، كما لا منطق أن يكون صبر اليمنيين عل الظلم والقهر بلا حدود.