كانت ثورة ديسمبر لحظة انكشاف عميقة أعادت تعريف طبيعة الصراع في اليمن؛ ففي الوقت الذي حاولت المليشيا تثبيت قبضتها على الدولة وإعادة صياغة المجتمع وفق مشروع طائفي مغلق، كانت ديسمبر تمثل رد الفعل الطبيعي لجمهورية تعرضت لعملية تجريف طويلة طالت مؤسساتها وهويتها وتاريخها السياسي.

ما حدث في صنعاء كان مواجهة بين مشروعين؛ مشروع يسعى لتفكيك الدولة وإحياء كهنوت ماضٍ مظلم، وآخر يحاول الحفاظ على ما تبقى من ركائز النظام الجمهوري، هذه اللحظة السياسية المعقدة أنتجت وعيًا جديدًا وكسرت فكرة أن سقوط العاصمة يعني سقوط الفكرة، لتفتح الباب أمام تحول أوسع في مسار الأحداث.

ومع انتقال المعركة من شوارع صنعاء إلى فضاء أوسع، اتسعت دلالة ديسمبر لتصبح أكثر من انتفاضة؛ إذ تحولت تدريجيًا إلى نقطة بداية لمسار سياسي جديد يُعاد فيه بناء مفهوم الدولة من خارج مركز القرار التقليدي. فبينما كانت المليشيا تتوهم أن اغتيال القائد سيُنهي الحلم الجمهوري، كانت رياح الساحل الغربي تجمع شتات الفكرة وتحوّلها إلى مشروع يتجاوز الرمزية نحو الفعل والتنظيم. هناك بدأت معالم بديل واقعي يتشكل، جيش متماسك، مؤسسات تنمو، ورؤية تسحب القوة من يد الفوضى وتعيدها إلى منطق الدولة، هذا الانتقال الطبيعي من لحظة المواجهة إلى لحظة البناء هو ما يمنح ديسمبر اليوم معناها العميق، ويجعلها نقطة انعطاف حقيقية تفسر كيف واصل مشروع الدولة صعوده بينما بدأ مشروع المليشيا في الانهيار.

عندما خرج الزعيم علي صالح في الثاني من ديسمبر، لقيادة المعركة وصناعة ثورة حقيقية في وجه المليشيا، لم يكن هدفه العودة إلى الحكم، ولا ليصنع مجدًا شخصيا إنما ليعيد الأمور إلى مسارها الطبيعي، كانت معركته مع المليشيا لحظة فارقة، انفضحت فيها المليشيا بوصفها مشروعا طائفيًا لا يمت للجمهورية ولا للوطن بصلة، هبّ الرجل ليكشف المستور ويعرّي المليشيا التي لبست ثوب "الثورة" وهي تحمل في قلبها مشروعًا يعادي الدولة والإنسان، ومع ذلك لم تكن ديسمبر هزيمة لأن الهزيمة لا تُقاس بالرصاص فقط بل بقدرة الفكرة على النجاة وقد نجت فكرة ديسمبر وواصلت تنفسها رغم استشهاد قائدها وهو يخوض معركته في قلب العاصمة صنعاء.

وبينما احتفل الحوثي بقتل الزعيم ظنًا منه أنه دفن معه الثورة، كانت رمال الساحل الغربي تشهد ميلاد امتداد جديد للمشروع، لم يكن طارق صالح مجرد وريث لاسم أو لقب بل حاملًا لوصية سياسية واضحة؛ استعادة الدولة من براثن الطائفة، هناك على شاطئ البحر تشكلت نواة جديدة للجمهورية، جيش منظم، رؤية واضحة، مشروع حقيقي، وإرادة صلبة لم تستمد قوتها من الماضي فقط، بل من حاجة اليمنيين لمنقذ يحمل ملامح الدولة التي سقطت.

وفي المقابل واصل الحوثي السقوط الأخلاقي والسياسي، لا يحمل نموذجًا ولا يقدم خدمات، ولا يبني تعليمًا، ولا ينشئ اقتصادًا، مجرد قوة قمعية تعيش على الجبايات والخُمس وعلى الخرافة التي يروج لها منذ سنوات. لا يملك رؤية سوى خطاب طائفي مكرر، ولا يمتلك مشروعًا سوى تحويل اليمن إلى ساحة حرب تخدم مصالح النظام الإيراني، وبينما يعيش الناس في مناطق سيطرته ويلات العذاب والقهر بلا رواتب، ولا تعليم، ولا أمن، ولا مستقبل، يكشف الساحل الغربي عن نموذج مضاد؛ مؤسسات تعمل، رواتب تُصرف، حياة تستقر، خدمات تتحسن، وأمن يُشعر الإنسان بوجود دولة.

لقد أثبتت الأحداث أن المقاومة الوطنية مشروع متكامل يحمل في داخله امتدادا لثلاثة عقود من الخبرة السياسية والعسكرية التي بُنيت في زمن الدولة. ما فعله طارق صالح في الساحل هندسة لبناء نموذج حكم يمكنه أن يُعاد إنتاجه في كامل البلاد ولهذا السبب تحديدًا، يشكل الخوف الأكبر للمليشيا لأنهم يدركون أن مشروعهم لا يملك القدرة على الصمود أمام قوة تحمل الشرعية الشعبية والتاريخية والمنطقية في آن واحد.

اليأس الحوثي اليوم يتجلى في كل خطوة من التعليم، إلى الاقتصاد، إلى تزييف الوعي، إلى محاولة طباعة عملة بلا غطاء اقتصادي في محاولة يائسة لترقيع الانهيار، كل ذلك ليس سوى ارتعاشات مشروع ينتهي لا يملك القدرة على إقناع الناس ولا ردعهم ولا تقديم أي بديل، يعيش الحوثي اليوم على خوف يتآكل وعلى خطاب يتكرر حتى فقد أي تأثير، يعرف داخليًا أنه كيان بلا جذور، وأن ساعته تقترب، وأن ما تبقى له هو الزمن وليس القوة.

وفي المقابل، يشعر اليمني أن ديسمبر مشروع حي يتقدم خطوة خطوة، يدرك الناس أن طارق صالح العمود الأخير الذي يستند عليه مشروع الدولة وأن ما بدأه الزعيم لم ينتهِ يوم اغتياله، بل تحول إلى سلسلة من الإنجازات تتوسع كل يوم في الساحل، وتضيّق الخناق على المليشيا التي تحاصر نفسها بخطاياها.

اللحظة التي يسقط فيها الحوثي ليست بعيدة وما يجري الآن ليس سوى عد تنازلي لنظام فقد شرعيته، واحترامه، وخوف الناس منه، وعندما تشتعل الشرارة الأخيرة، لن يجد الحوثي مكانًا يفرّ إليه، ولن يجد قصة يختبئ خلفها، فجدار الأكاذيب ينهار وشهر ديسمبر يعود لا كذكرى للماضي بل كموعد للغد.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية