مع إشراقة صباح السادس والعشرين من سبتمبر يبدأ الطفل محمد ورفاقه في قرية "الشُعبة" أسفل جبل الصلو، استعداداتهم المعتادة، حيث يجمعون إطارات السيارات القديمة لتجهيزها لحرقها مساءً في أعلى القرية، احتفالاً بعيد الثورة اليمنية المجيدة، يوم الخلاص من أحد أعتى أنظمة الحكم التي عرفها اليمنيون.

ومع حلول المساء، يشعل محمد ورفاقه الإطارات بمشاركة رجال القرية، فتتوهج أعالي الجبال بأنوار اللهب، وتتردد أصوات الفرح من القرى المجاورة التي تشارك بدورها في الاحتفال، عبر دق الطبول والرقصات الشعبية.

تتحول تلك الليلة إلى مناسبة وطنية مبهجة، يُستحضر فيها نصر الأجداد الذين ضحّوا من أجل الحرية، ويجدد فيها الأبناء عهد الوفاء لتضحياتهم.

زيادة الزخم الثوري

شهدت السنوات الأخيرة توسعاً لافتاً في رقعة الاحتفالات بذكرى ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، خصوصاً في المناطق التي عانت طويلاً من ويلات النظام الإمامي، وما خلفه من ظلم واضطهاد وتنكيل.

بات اليمنيون يستقبلون هذه المناسبة بطرق احتفالية متنوعة، تعكس مدى ارتباطهم العميق بها واعتزازهم بيوم تحررهم من الاستبداد.

الصحفي أسامة الكربش يؤكد هذا التحول اللافت، حيث يقول إن مظاهر الاحتفال أصبحت أكثر حماسة وانتشاراً من أي وقت مضى، مضيفاً: "في ليلة السادس والعشرين من سبتمبر، درجت العادة -كما يطلق عليها باللهجة الدارجة- على "التنصير"، وهي عملية إشعال إطارات السيارات في أعالي الجبال أو فوق أسطح المنازل. كان هذا الطقس محدوداً في السابق، يقتصر على بيوت أو مناطق محددة، لكنه اليوم بات واسع الانتشار".

ويتابع: "الآن، يخرج الناس في تلك الليلة إلى الشوارع والأماكن العامة، يغنون الأهازيج الوطنية، وتُضاء الشعلة في المرتفعات وأسقف المنازل، في مشهد احتفالي جامع".

ويشير الكربش إلى أن مظاهر الاحتفال لم تعد تقتصر على إشعال الإطارات، بل تشمل قرع الطبول واستخدام أدوات تقليدية كـ"المرفع" و"الطاسة"، لتحول المناسبة إلى عيد شعبي يشارك فيه أغلب أفراد المجتمع، في تعبير صادق عن الولاء لثورة السادس والعشرين من سبتمبر وروحها التحررية.

العيد يغزو وسائل التواصل

أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير في تحويل مناسبة ثورة السادس والعشرين من سبتمبر إلى حالة جماهيرية شاملة، إذ أصبحت هذه المنصات فضاءً واسعاً للتعبير عن الانتماء الوطني، والتمسك بمكتسبات الثورة، والتعبئة الشعبية ضد كل أشكال الإمامة.

ويحرص اليمنيون على الاحتفال بهذه المناسبة عبر الإنترنت من خلال مشاركة منشورات تعبّر عن الفخر والاعتزاز بثورة سبتمبر، كما تتنوع مظاهر الاحتفال بين نشر صور الأعلام اليمنية، ومقاطع الفيديو التي توثق الأهازيج والأناشيد الوطنية، بالإضافة إلى تصميم ومشاركة الشعارات والقصائد التي تمجد الثورة وأبطالها.

كما يقوم الكثيرون بتغيير صور ملفاتهم الشخصية باستخدام إطارات تحمل ألوان العلم اليمني أو شعارات مثل "سبتمبر المجيد"، إلى جانب كتابة منشورات تستعيد بطولات الثوار وتعبر عن مشاعر الفرح والولاء.

وبهذا، تتحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحة يحتفل بها اليمنيون الموجودون داخل الوطن وخارجه، مظاهر تعكس حجم الحب والتقدير الذي يكنّه اليمنيون لثورتهم، رغم بُعد المسافات وتفاوت الظروف بين الداخل والخارج.

مناسبة تذكرهم بالظلم

يتذكر المواطنون في أرياف مديرية الصلو وشرعب سنوات القهر التي عاشوها تحت حكم النظام الإمامي، الذي فرض على قراهم واقعاً من الظلم والاستبداد. من أبرز صور هذا الظلم، ما كان يحدث في موسم الحصاد، حيث يُجبر الأهالي على تسليم جزء كبير من محاصيلهم الزراعية لعسكر الإمام.

ويؤكد عدد من المواطنين في المديريتين أن جنود الإمام كانوا يفرضون على الأهالي نقل محصول الحبوب من مدرجاتهم الزراعية إلى موقع يحدده الإمام مسبقاً، وهناك تُؤخذ "الجزية" قسراً من كل منزل، دون أي اعتبار لاحتياجات الأسر أو تعبهم في زراعة الأرض.

ولم يقتصر الأمر على المحاصيل، بل كان الجنود يأخذون أيضاً جزءاً من الماشية والدواجن بالقوة، وسط صمت مطبق وخوف دائم من بطش السلطة.

مع حلول عيد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيدة، يؤكد الشعب اليمني مجددًا تمسكه الراسخ بأهداف ومبادئ ثورته الخالدة والنظام الجمهوري الذي ضحى من أجله الآباء والأجداد، تأتي احتفالات هذا العام في مرحلة تاريخية حرجة تمر بها بلادنا، تتمثل في محاولة الإمامة البائدة العودة من جديد عبر انقلاب الميليشيات الحوثية، التي تسعى جاهدة لإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء.

الأعلام تغزو المحال التجارية

منذ بداية شهر سبتمبر من كل عام، تبدأ مظاهر الاحتفاء بثورة 26 سبتمبر بالظهور تدريجياً في مختلف المدن اليمنية، ولا سيما في الأسواق الشعبية والمحال التجارية. يتحول هذا الشهر إلى موسم وطني، حيث تتزين المحال بالأعلام اليمنية، وتُعرض الأوشحة والقمصان التي تحمل ألوان العلم، وكل ما يرتبط بأجواء الاحتفال.

لا يقتصر الأمر على السلع فقط، بل ينعكس على الفضاء العام، حيث تصدح الأناشيد الوطنية من مكبرات الصوت، وتُعلّق اللافتات التي تحمل شعارات الثورة، وتُضاء الشوارع في بعض المناطق بمصابيح بألوان العلم الثلاثة.

تستفيد المحال التجارية من هذا الزخم الوطني، فتُطلق عروضاً ترويجية، وتعرض بضائع مرتبطة بالمناسبة، وسط إقبال شعبي كبير، خصوصاً من قبل الأطفال والشباب الذين يشترون مستلزمات الاحتفال من المفرقعات إلى الشعارات الورقية والأعلام.

في الأرياف، تنعكس هذه الأجواء أيضاً من خلال نزول الأهالي إلى الأسواق المحلية لشراء متطلبات الاحتفال، حيث أصبحت هذه المناسبة تقليداً سنوياً يحرص عليه اليمنيون، وتغدو الأسواق جزءاً أصيلاً من ملامح الفرح التي ترافق ذكرى الثورة، حتى قبل حلول يومها المرتقب.

يقول محمد عارف، أحد التجار في مدينة تعز، إن الإقبال على شراء الأعلام والشعارات الوطنية ارتفع بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، مما دفع التجار إلى الاستعداد المبكر وتوفير كميات متنوعة من مستلزمات الاحتفال.

ويشير إلى أن هذا الإقبال يعكس تغيراً واضحاً في مستوى الاحتفاء الشعبي، مقارنةً بالسنوات الماضية التي كان فيها الاحتفال يقتصر غالباً على رفع الأعلام وتشغيل الأناشيد الوطنية في المؤسسات الحكومية فقط.

ويضيف عارف: "بات أصحاب المحلات التجارية يتوافدون لشراء الأعلام لتزيين واجهات محلاتهم، كما يُقبل المواطنون على رفع الأعلام فوق أسطح منازلهم، ويحملونها خلال جولاتهم الاحتفالية في يوم السادس والعشرين من سبتمبر داخل أحيائهم وقراهم". كما لفت إلى ازدياد الطلب على المفرقعات النارية بأنواعها، والتي تُستخدم بكثافة في ليلة العيد الوطني، ضمن طقوس الفرح والاحتفال بثورة سبتمبر المجيدة.

يرى المحلل السياسي عبدالواسع الفاتكي، أن المظاهر الاحتفالية التي تعم ربوع اليمن، من المدارس والجامعات إلى الفعاليات الرسمية والشعبية ليست مجرد طقوس سنوية، بل هي رسائل سياسية واضحة وقوية موجهة للميليشيات الانقلابية بأن مشروعها إلى زوال.

ويتابع: "فمن خلال إقامة الندوات والورش السياسية التي تستعرض تضحيات الثوار، وإشعال الشعلات في قمم الجبال، وتزيين المنازل والجدران ورفع الأعلام الوطنية فوق كل مؤسسة، يبعث اليمنيون برسالة مفادها أنهم لن يتنازلوا عن جمهوريتهم أو يفرطوا في تضحيات أجيال سبقت من أجل حريتهم وكرامتهم".

ويضيف: "لقد أدرك اليمنيون حجم المنجزات التي تحققت بفضل ثورة 26 سبتمبر، وسيظلون أوفياء لدماء الشهداء ومبادئ الثورة، ومصممين على الحفاظ على مكتسباتهم الوطنية، وفي هذا السياق نقف اليوم لنؤكد تمسكنا بهويتنا الوطنية الجمهورية في وجه المحاولات الحوثية اليائسة لطمس الذاكرة الوطنية".

ويقول :"إن استبدال أسماء الشوارع والمدارس التي حملت أسماء الثوار الأحرار بأسماء قادة الميليشيات والقتلة، لن ينجح في محو تاريخنا المشرق فاحتفالنا بهذه الذكرى هو تأكيد حي ومستمر على أن الهوية الجمهورية التي أُعلنت فجر السادس والعشرين من سبتمبر ستبقى خالدة في وجدان كل يمني حر. إننا نؤكد للعالم أجمع أن الشعب اليمني سيواصل نضاله حتى استكمال تحقيق كامل أهداف ثورته، وبناء يمن جمهوري حديث تسوده العدالة والحرية والكرامة".

شكل من أشكال المقاومة

يشير الصحفي أسامة الكربش إلى أن الزخم الكبير والاهتمام المتزايد بالاحتفال بذكرى ثورة السادس والعشرين من سبتمبر في السنوات الأخيرة، يحمل دلالات عميقة تتجاوز مجرد كونه طقساً احتفالياً. ويؤكد أن هذا التفاعل يأتي في سياق محاولات الإماميين الجدد، ممثلين بجماعة الحوثي، لإحياء مشروعهم القائم على إعادة إنتاج النظام الإمامي الكهنوتي.

ويضيف الكربش: "تحوّلت ذكرى سبتمبر بالنسبة لليمنيين اليوم إلى رمز للحرية والجمهورية والكرامة، خاصة في ظل التحديات الراهنة التي يمر بها الشعب اليمني. ويمكن اعتبار التفاعل الشعبي المتصاعد مع هذه المناسبة شكلاً من أشكال المقاومة الرمزية لمشاريع العودة إلى الماضي، أو محاولات تفريغ الجمهورية من مضمونها".

ويختتم حديثه بالتأكيد أن هذا الزخم الشعبي هو رسالة واضحة بأن اليمنيين متمسكون بجمهوريتهم، ويرفضون العودة إلى عصور الاستبداد والوصاية، سواءً كانت دينية أو سياسية.

إن مشاهد الأعلام والأناشيد في المدن والقرى اليمنية، وحرص الأجيال الجديدة على المشاركة، سواءً في المدارس والجامعات، هي فعل مقاومة ثقافي وتربوي يحمي ذاكرة اليمنيين من الطمس، ويجعل سبتمبر حاضراً في وعي الأجيال الجديدة كقضية حياة ومستقبل.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية