سلسلة حلقات تنشرها وكالة 2 ديسمبر، من ملف بعنوان (خرافة الولاية)، وفيما يلي الحلقة الواحدة والعشرون..

 

كثيراً ما نجد نقاطاً مشتركة بين مختلف الأديان سواء على مستوياتها الغيبية أو النظامية التشريعية، مما يوحي بأحد احتمالين أو كليهما معاً.

 

الأول أن الأديان كمحاور مركزية في الثقافات تخضع لما تخضع له الثقافات من تلاقح وتأثر وتأثير، أما الثاني وهو الأسبق في احتمالية حدوثه يشير إلى وحدة مصدر الأديان لاسيما بالنظر إلى قواسم مشتركة في ديانات شعوب بدائية مشتتة في أنحاء العالم. وما يجري على سائر الأديان يجري على الدين الإسلامي الذي أثر في ديانات أخرى وتأثر بها، ولعل المشكلة -إن كانت هناك مشكلة – لا تكمن في حتمية عملية التأثر والتأثير وإنما في انضباط العملية خصوصاً ما يتصل بالتأثر وعمقه ومداه، وما إذا كان التأثر قد تغلغل لحد المساس بهوية وخصائص الدين المعين المميزة له عن غيره.

 

يمكن القول إن معظم الأديان تتشكل من دائرتين رئيسيتين، إحداهما تنظم العلاقة بين الإله والإنسان على المستوى الفكري والعملي وتشمل المضامين الغيبية، كماهية الله وبدء التكوين، والمضامين الطقوسية والشعائرية. وتتسم هذه الدائرة عموماً بقدر كبير من الرمزية، ومسألة الإرماز أمر طبيعي في هذا النوع من العلاقة لاختلاف الكينونتين الإلهية والبشرية وحاكمية وعلو الأولى على الثانية، ما يجعل تفسير رموز العلاقة شأناً إلهياً صرفاً يصعب على الكينونة البشرية تأويلها ومعرفة غاياتها دون الوقوع في اختلافات لا طائل منها ولا نهاية واضحة لها وبهذا المعنى يقول تعالى " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" آل عمران 7. وبحسب المصطلحات الفقهية الإسلامية فهذه الدائرة الرمزية في أغلبها توقيفية لا اختصاص بشري فيها ولا فائدة دنيوية تترتب عليها. فنحن كمسلمين نجهل كنه الحقيقة الإلهية خارجاً عما ذكره القرآن الكريم، ولا نعرف مقاصد وغايات أداء شعائر وطقوس بالكيفيات التي أمرنا بها، فلا اختصاص للإنسان في إدارة هذه العلاقة خارج عملية الامتثال، أما الدائرة الثانية فهي حياتية تنظم علاقة الإنسان بالإنسان، وتشمل المضامين الأخلاقية القائمة على الضمير، والمضامين التشريعية والقانونية، وهذه الدائرة من العلاقة تتسم بالوضوح أكثر من الإرماز، ولأنها علاقة بشرية بشرية فهي تتسع لمساحة من الفعل الإنساني في ضوء المؤشرات الإلهية.

 

لكن الحاصل أن اليد البشرية تدخلت كثيراً في الدائرتين، تجلت إحدى صور هذا التدخل في الاستقاء المتبادل بين الأديان، ما أسهم في صناعة تشققات وانشقاقات داخل الدين الواحد ناجمة عن تغليب مصدر دون مصدر، ومدى السماح للتأثير الوارد في تكوين مساحاته الخاصة.

 

بتنزيل ماسبق على الدين الإسلامي، يمكن التأكيد مجدداً على وجود قواسم مشتركة بينه وبين أديان أخرى على مستوى الدائرتين، في جوانبها الغيبية والطقوسية، والأخلاقية والتشريعية، ولعل هذا المشترك يمثل النسبة الأكبر – إن جاز إعطاء نسب في هذا الشأن – لاسيما مع الأديان السماوية المعروفة اليوم. ففي الجوانب الغيبية، الله، الملائكة، الشياطين، الجنة، النار، الآخرة (بعض الفرق اليهودية لا تؤمن بالآخرة)، والقصص المتعلقة بالسابقين، أو دعونا نقول الأساطير دون أن نعني باللفظ أنها لم تقع.

 

وفي النواحي الطقوسية الصلاة والصيام والحج، والتلاوة، والقرابين، ومن النواحي التشريعية أو القانونية القصاص وبعض الحدود والعقوبات.

 

أما ما يعطي النقاط المشتركة خصوصيتها الإسلامية فهو مجيئها عبر النبي محمد عليه الصلاة والسلام من خلال القرآن والسنة.

 

وبذلك لا يمكن القول إن تحديد عدد الصلوات يومياً بخمس مرات وبوضوء أو طهارة تسبقها مستقاة من الديانة الزرادشتية الفارسية، أو أن قصاص النفس بالنفس، والسن بالسن أتى من تشريعات العهد القديم أو من الديانة اليهودية، أو أن الطواف حول الكعبة بقايا طقوسية وثنية. وغيرها من الأمثلة التي لا يمكن القول بها وتجريدها من سمتها الإسلامية. أما السبب فيكمن في أنها اكتسبت خصوصياتها وهويتها الإسلامية ومن ثم مشروعيتها بوصولها إلينا من خلال نبينا. فيكون هو الضابط والمرجعية البشرية الوحيدة بالنسبة لنا كمسلمين في إكساب المواقف الفكرية والعملية مشروعيتها الإسلامية. وبانقطاع النبوة بوفاته عليه الصلاة والسلام تبقى أي مواقف تالية بما فيها الاستقاء من الأديان الأخرى حالات اجتهادية لا ترتقي لأي مستوى من القداسة، وتظل خاضعة للنقد في ضوء التعليمات الإلهية الواردة إلينا عبر نبينا والمدونة بشكل يقيني في القرآن الكريم، وبقدر أقل يقينية في كتب السنة.

 

على خلاف أديان أخرى بدأ الشقاق في المجتمع الإسلامي على أساس سياسي تمخض عن نشوء ثلاث فرق أساسية هي السنة، والشيعة، والخوارج. مع الإشارة إلى أن اكتمال بنياناتها الفكرية أخذ بالمجمل ثلاثة قرون من الهجرة إلا في ما يخص إلى حد ما الفرقة الخارجية. وكان منشأ افتراقها الموقف من استحقاق خلافة النبي. وفي سعي كل منها لبناء هوية خاصة لجأت كل فرقة إلى الاستعانة – بوعي أو بدون وعي – بأدوات فكرية تقع خارج المربع الإسلامي، ومن ثم أسلمت هذه الأدوات لتحظى بالقدسية والمشروعية. بيد أن درجات الاستقاء من المصادر الخارجية تفاوتت بين هذه الفرق، بل وبين المذاهب المتفرعة من كل فرقة.

 

وعلى العموم يمكن القول إن جميعها تأثرت في النواحي الغيبية العقائدية، والطقوسية، والنظامية التشريعية، إلا أن الفكر الشيعي تميز باختزال قضيته الدينية في المسألة السياسية التي أعاد تدويرها في نطاق مقدس من خلال فتح الباب على مصراعيه لتأثير الأديان الأخرى وتحديداً الديانات الفارسية في مساحات مهمة في الدائرة الغيبية الرمزية في مجالاتها العقائدية والطقوسية الشعائرية، والأسطورية. لكن لماذا الديانات الفارسية الأكثر تأثيراً في الفكر الشيعي؟ ويرتبط بهذا سؤال آخر، لماذا الفرس من أكثر الشعوب تفاعلاً وتقبلاً للفكر الشيعي؟

 

في صدد الإجابة عن السؤال الأول ينبغي الإشارة إلى مفهوم الديانات الفارسية الذي لا نقصد به هنا دينا بعينه، كما لا نقصد بفارس بقعة الأراضي الجغرافية الواقعة داخل حدود الدولة الإيرانية اليوم، ولا بالفرس ذلك العرق المنتمي في أصوله إلى الشعوب الآرية، فعندما نتحدث عن الفرس وفارس فإن المقصود هو نطاق ثقافي لا ينحصر داخل حدود الدولة الإيرانية، وإن كانت تمثل مركزه راهناً، ويتعدى العرق الفارسي الآري – غير النقي – وبطريقة مشابهة فالمقصود بالأديان أو الدين الفارسي هنا مجموعة التفاعلات الثقافية والدينية التي أنتجت ثقافة فارسية مركزها الدين، وأسفرت عن ديانة فارسية شديدة التمازج بديانات أخرى أملتها الخلفية الحضارية والموقع الجغرافي لفارس. أما الخلفية الحضارية فكون فارس كمجال حضاري تترابط عضوياً بحضارات العراق القديمة من سومرية وبابلية وأشورية قبل أن تكون وريثتها منذ القرن السادس قبل الميلاد، إضافة إلى أن الإمبراطورية الفارسية التي أسسها كورش تحددت في نطاق حضاري واسع يشمل الشام بمكوناتها الدينية والثقافية من آرامية، وكنعانية بوليديها الفينيقي والعبري، وحتى مصر. ثم الاحتكاك اليوناني فالروماني بمكونهما الديني بما فيه المسيحية.

 

أما موقعها الجغرافي فقد أتاح لها مجال احتكاك آخر مع الديانات الهندية. ما جعل الدين الفارسي بمدييه الغيبي الرمزي والحياتي خليطاً متأثراً – ومؤثراً بطبيعة الحال – بالديانات الهندية من هندوسية وبوذية وجانتية، والعراقية القديمة، والشامية من يهودية ومسيحية، والفارسية المنشأ وبمقدمتها الزرادشتية وتفرعاتها المانوية، والمزدكية كخليط من الزرادشتية والمسيحية.

 

وفي الإجابة عن السؤال الثاني الخاص بعوامل الانخراط الفارسي في الحالة التشيعية من الملائم التنويه إلى أن التشيع ظهر في العراق، وتحديداً الكوفة حاضرة الشرق الإسلامي الذي كان بصورة أو بأخرى مرادفاً لفارس. حتى في صيغة المكون العربي للكوفة في أوائل عهدها الملاحظ أنه كان من القبائل اليمنية – بعكس البصرة التي قطنتها قبائل مضرية – ومن المعروف أن اليمن كانت موطن ديانات مختلفة بينها اليهودية والمسيحية، وكانت موطن احتكاك أساسي بالمجال الفارسي عبر خضوعها للسيادة الفارسية لعدة عقود، وبالتالي توافرت في قبائل الكوفة اليمنية قابلية الامتزاج بالثقافة الفارسية.

 

بعد أن أصبحت الكوفة وعادت العراق عموماً مركزاً للثقافة الفارسية – كما كانت لقرون طويلة – بدأت مكونات الفكر الشيعي تنبت وتتطور هناك بفعل عدة عوامل. قد يقال إن منبت التشيع لعلي كان في المدينة ومنذ عهد النبي وبشكل أبرز عقب وفاة النبي بتشكل مجموعة من الصحابة حوله وتأييدهم لاستحقاقه الخلافة. وهذا الأمر صحيح إذا كنا نتحدث عن صداقات ومواقف من الطبيعي أن تظهر مع هذا أو ذاك إلا أن التشيع المقصود هو المنظومة الفكرية والإيديولوجية.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية