لطالما تمنى "العرب، والمسلمون" زوال دولة "إسرائيل"، ككيان دخيل غريب، تم زرعه بشكل مغرض. في عقر دارهم.. ولطالما حاولوا إزالة هذه الكيان الدخيل بأيديهم، لكنهم فشلوا لأسباب لا يبدو أنهم يريدون أن يتفقوا في تحديدها، والمؤكد أن بقاء إسرائيل وتفوقها حتى اليوم يرجع لتبنيها-كشعب وحكومة- مجموعة من القيم الحديثة، والظاهر أنها تحاول اليوم التراجع عنها، وهو ما يراه كثير من المراقبين بداية النهاية بالنسبة لها. 

رغم هويتها القومية اليهودية.. دأبت "إسرائيل"- منذ قيامها عام 1948- على النظر إلى نفسها، وتقديم شخصيتها للعالم باعتبار أنها: دولة "علمانية"، بهوية "وطنية"، ومجتمع "ليبرالي"، ونظام "ديمقراطي"، وكيان ثقافي اجتماعي منفتح ينتمي إلى الغرب.. وأنها واحة الحرية والعلم والحداثة والمعاصرة.. في المنطقة. 
أو هكذا أراد لها آباء الحركة "الصهيونية" الذين قاموا بالتخطيط والعمل على إنشاء هذا الكيان من قبل بداية القرن الماضي، وعلينا الاعتراف أنهم نجحوا إلى حد كبير في جعلها تتمثل هذه القيم الحديثة، على الأقل شكليًا. ورسميًا، وإن كانت في المقابل تحمل في العمق تناقضاتها المتأصلة تجاه هذه القيم الحداثية التي تشكلت بها، ومنحتها التفوق في المنطقة حتى اليوم. 

اليوم، كل هذه القيم باتت على المحك، كما يتكشف من خلال الأزمة المتصاعدة هناك بشأن "التعديلات القضائية"، وقد يبدو لوهلة أن هذه الأزمة مجرّد مشكلة تشريعية مبالغ في أهميتها، أو ربما خلاف سياسي مرحلي عابر بين فرقاء متجانسين سرعان ما سيجدون صيغة مناسبة للتسوية، أو ربما أزمة محلية لن يكون لها تداعيات إقليمية ودولية..!  
كما قد يبدو أن هذه "التعديلات" التي تسببت بهذه الأزمة تهدف لجعل هذه الدولة أكثر ديمقراطية وليبرالية وعلمانية.. كونها تقلص صلاحيات الهيئات القضائية التقليدية المتشكلة بالتعيين- خاصةً "المحكمة العليا"- لصالح الكنيست والهيئات الحكومية المنتخبة من قِبل الشعب! 
غير أن الحقيقة أكبر وأخطر بكثير مما قد نتصور، فبغض النظر عن التفاصيل، "التعديلات القضائية" بمثابة الرأس الظاهر من جبل الجليد، فما يحدث هناك هو أزمة وجودية عاصفة لم يسبق لإسرائيل أن مرت بمثلها من حيث الحدة والخطورة والأبعاد الكيفية والكمية، وستترتب عنها تحولات جذرية على مختلف تقاليد النظام والمجتمع الإسرائيلي، 
من حيث "الدولة الوطنية"، هذه التعديلات تمكن الحكومة من تعيين القضاة وأعضاء المحكمة العليا، وبما يتعارض مع أهم مبادئ الدولة الحديثة وهو مبدأ الفصل بين السلطات، ومن ضمن أشياء كثيرة لن يكون بإمكان القضاء ملاحقة مسؤولين بتهم الفساد، كما كان يحدث دائمًا، وخاصة تجاه "نتنياهو" نفسه. كما أن السلطة الدينية ستصبح أكثر تحيزًا فيما يتعلق بمبدأ المواطنة. 

ومن حيث "العلمانية": "المحكمة العليا"، بُنيت على أسس علمانية، ومن شأن إضعافها تقوية "الكنيست" بأغلبيته الدينية، وتمكين القوى الأصولية من تشكيل نظام ديني؛ فاليمين المتطرف بفصائله المختلفة، لم يعد يريد أن يحكم فقط؛ بل أن يغير الإطار العلماني الديمقراطي الذي يحكم التقاليد السياسية، واستبداله بإطار يميني ظل حتى اليوم في الهامش.  

ومن حيث "الليبرالية": هذه التعديلات تتيح المجال لهيمنة القوى الدينية على شؤون الدولة والحياة الاجتماعية والثقافية للمجتمع، وهذه القوى باتت قادرة على إعادة سن القوانين الليبرالية التي تم سنها سابقًا، بما من شأنه تكوين بيئة اجتماعية متزمتة متعصبة أبعد ما تكون عن التسامح والقبول بالحرية والتنوع والاختلاف. 

ومن حيث "الديمقراطية": هذه التعديلات تلغي الرقابة على الحكومة والكنيست، وتمكن الحكومة من التحول إلى حكومة دينية ديكتاتورية، بدايةً بتحويل الديمقراطية إلى "ديمقراطية "غير ليبرالية" شبيهة بتركيا أو المجر.. حيث يدفع المحافظون الثقافيون سياسات تستهدف الأقليات العرقية والجنسية. 
 
ولا شك أن هذه التحولات الجذرية الشاملة ستنعكس عمليًا بشكل كبير على كافة الأصعدة، 
في الوحدة الوطنية: تسببت التعديلات بتصدعات وشروخ اجتماعية أكبر مما تحتمله الاختلافات السياسية، وبشكل يضر بالقواسم المشتركة التي بنيت على أساسها إسرائيل، وصولًا إلى الجيش نفسه، الكثير من قوات الاحتياط، وحدات النخبة والعمليات الخاصة، والمخابرات العسكرية، والطيران ووحدات الحرب الإلكترونية، والطيران العسكري؛ عبّروا عن موقفهم الرافض للخدمة في حال أُقرّت التعديلات! 

لم يحدث شيء مماثل من قبل، الجيش الإسرائيلي هو الضمانة الأساسية لبقاء دولة إسرائيل، بجانب علاقتها بالقوى الغربية، على رأسها أمريكا، لكن حتى هذه العلاقة الحيوية الأخيرة تضررت بدورها من هذه التعديلات، حتى أن وزير خارجية الولايات المتحدة "أنتوني بلينكين" حذر "نتنياهو" "من أن العلاقات بين الدول تقوم على أساس الحفاظ على المؤسسات الديمقراطية ونظام فصل السلطات".

على الصعيد الاقتصادي: السياسات غير الليبرالية التي تتبناها إسرائيل تلحق ضررًا عميقًا وطويل الأمد بالنمو الاقتصادي، وتحجّم القدرة على جلب الاستثمارات، وتؤدي إلى هروب الأدمغة ورؤوس المال والاستثمار، وحسب إحصائيات مسؤولة؛ فإن "نحو 70 بالمئة من الشركات الناشئة في إسرائيل اتخذت خطوات لنقل بعض أعمالها إلى الخارج"! 
وهكذا في بقية الجوانب، ما يعني أننا أمام أزمة بنيوية بالغة العمق والشمولية والتأثير، وخلاف استراتيجي مصيري، يتعلق بمستقبل كيان وكينونة ومستقبل هذه الدولة والمجتمع، بما سيؤثر بالتأكيد سلبًا على كيانه وإمكاناته وعلاقاته، وبما يشبه الانتحار، لكنه فيما يتعلق بإسرائيل، انتحار بطيء؛ بل يرى كثير من المراقبين أنه بمثابة المسمار ما قبل الأخير في نعش هذا الكيان الاستيطاني.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية