الدكتور صادق القاضي يكتب لـ" 2ديسمبر": "الأخ الأكبر" والإمام "يحيى حميد الدين":"الماضي" كمادة قابلة للتغيير!
في روايته الفذة "1984"، قدم "جورج أوريول" "الماضي" كمادة قابلة للكتابة والمحو والتعديل.. بما يتضمن تعديل بعض أخبار الصحف الصادرة منذ أعوام طويلة، والصور المتعلقة بها، وجعل الصديق عدوًا أو العكس، حسب مزاج "الأخ الأكبر" في اللحظة الراهنة، وإعادة طباعة الأعداد ذات العلاقة، ووضعها في الأرشيف!
يشبه الأمر أن يقوم الفيفا "الاتحاد الدولي لكرة القدم" اليوم، لأسباب سياسية وأيديولوجية، بتعديل أرشيفه الرياضي بحذف الأوروغواي من بطولة العالم لعام 1934، لصالح يوغسلافيا التي حازت حينها المركز الرابع، أو جعل ألمانيا الغربية هي من فازت بكأس العالم عام 1958، مع أن الواقع أن البرازيل التي كانت صاحبة الكأس في تلك الدورة!
وهذا بالضبط ما يحاول الحوثيون اليوم فعله بالنسبة لتاريخ الإمامة، وأخبارها وحتى صور رجالاتها، على رأسهم "الإمام يحيى"، بداية بتعديل صورته وتلوينها بالفوتشوب، وتلبيسه وجهًا ملونًا يشع بالنور، بما يذكّر بالملائكة والقديسين في لوحات ميكل أنجلو!
على الصعيد الإخباري، وعلى الأقل فيما يتعلق بالجانب المعيشي للشعب اليمني خلال عهد هذا الإمام.. فبدلًا من الأخبار التاريخية المعروفة بأكثر مما يكفي في الداخل والخارج، عن موجات المجاعة التي حصدت نسبة مرعبة من أرواح الشعب اليمني.. يشيعون لأسباب مفهومة، أن الشعب اليمني كان غارقاً في النعيم أيام الإمامة، لدرجة أن الإمام يحيى أنقذ الشعب الألماني من المجاعة التي كادت تفتك به في عهده، بفائض القمح اليمني!
يتجاهلون سلسلة المجاعات التاريخية المروعة التي سحقت الشعب اليمني مراراً خلال ذلك العهد المشؤوم، وحفرت اسمها بشكل عميق بشع في ذاكرة اليمن والتاريخ العالمي.
حسب الفيلسوف وعالم الاقتصاد الهندي "أمارتيا صن" في كتابه التنمية حرية 1999م، فإن المجاعات في اليمن، في ذلك التاريخ، لم تكن تحدث بسبب القحط والجفاف ونقص الغذاء، بل بسبب سوء إدارة الموارد، وقد حصدت إحدى تلك المجاعات 30% من أرواح اليمنيين، وهي أكبر نسبة لضحايا مجاعة طوال التاريخ!
كانت مخازن الإمام يحيى حينها مليئة بالحبوب.. بينما كان الناس يتضورون ويموتون جوعاً في الطرقات.. حتى اليهود ماتوا جوعاً وهم أغنى الناس في كل بلدان العالم.. الجوع في عهد الإمامة لم يكن بسبب كوارث طبيعية بل بسبب سياسة منهجية للنظام الإمامي، لخصها الإمام أحمد حميد الدين، في استشهاده مرة بالعبارة المأثورة: "جوِّع كلبك يتبعك"!
في كتابه (وثائق أولى عن الثورة اليمنية)، قدم القاضي "عبد الرحمن الإرياني" مشهدًا لطريقة الإمام يحيى في مواجهة المجاعات، ينقل الإرياني عن أبيه أنه اقترح على الإمام أن يأمر الأفران التي تموّن الجيش بالكدم أن تضاعف إنتاجها ليتم توزيعها على الجائعين من ضحايا المجاعة- التي عانت منها أجزاء من اليمن عام 1940- فرد الإمام يحيى على الاستعطاف بالقول: "كما تعلمون.. لا يكفي الخلق إلا الخالق!".
في مجاعة "1942م، كانت خزائن الإمام أيضاً ملأى بالحبوب، بينما اضطر اليمنيون حتى لأكل الكلاب والقطط، وراح بعضهم يسألون الإمام يحيى النجدة، فصعّر خده لهم وقال كلمته المشهورة: "من مات من الجوع فهو شهيد.. ومن عاش فهو عتيق"!
كانت هذه الأوضاع اللا إنسانية لليمن معلومة على المستوى العربي والدولي. هناك نظام يزايد بالاستقلال بينما يقود الشعب إلى هاوية الانقراض، عندما كانوا يزايدون كثيراً بورقة "الاستقلال"، عن الاحتلال العثماني، كان هذا الاحتلال هو أسوأ أشكال الاحتلال وأكثرها همجية وانحطاطاً، ومع ذلك كان نظام الاستقلال الإمامي، حسب كل الشواهد، أكثر سوءاً وانحطاطاً منه.
في ذلك العهد زار أحد مساعدي الأمين العام للأمم المتحدة اليمن، فأُصيب بالذعر من هول البدائية والتخلف الذي تعيشه أو تموت به اليمن، فصرخ متألماً: عندما ذهبت إلى الكونغو رأيت جريمة الاستعمار.. وعندما جئت إلى اليمن رأيت جريمة عدم وجود الاستعمار!
وبالمثل، في زيارته لليمن في عهد الإمامة، تألم الرئيس الجزائري هواري بومدين لحالة الفقر والتخلف التي رآها في بلد عربي مسلم كان حكامه يتشدقون بأنهم حافظوا على استقلاله، فقال إنه بعد ما رأى فقد يكون على الذين قاتلوا الاستعمار في الجزائر أن يصنعوا له تمثالاً!
ومن طرائف ردود أفعال الأجانب الذين زاروا اليمن في أواخر عهد الإمامة؛ ما ذكره الدبلوماسي الروسي أوليغ بيريسيبكين الذي عمل في سفارة بلاده في تعز نهاية الخمسينيات، وعاصر اندلاع ثورة سبتمبر، فعندما حطت الطائرة في مطار الحديدة الترابي خاطب نفسه بخوف قائلاً: "إلهي: إلى أين.. حملتني؟!".
هناك المئات والمئات من الوثائق والشهادات عن الأوضاع المأساوية للشعب اليمني خلال عهد الإمام يحيى، وعن ردوده وحلوله الغيبية الغبية لتلك الأوضاع.. في حين تحاول الإمامة العائدة عبثاً بناء تاريخ مختلف مثالي لذلك العهد الأسود، وتغطية الشمس بغربال!
بطبيعة الحال يستحيل تغيير الواقع في الماضي، لكن يمكن تغييره في الوعي العام، ومحاولة خلق ذاكرة جمعية زائفة عنه، ومن هنا يحاول الحوثيون تكوين "تاريخ أريولي" عن الإمامة عبر عملية نشطة تتضمن حالات فجة من التحريف والتجريف والحذف والإضافة والمسخ والافتراء والاختلاق.. والمبالغة.. على طريقة "الأخ الأكبر" في رواية "1984" للرائع "جورج أوريول".