هدنة اليمن.. والتفاؤل الخادع
تفاءل كل يمني بالهدنة، وأنا شخصياً معهم، رغم معرفتي بالحوثية، لكني أجبرتُ نفسي على التفاؤل.
وأصدقكم القول، لا أدري كيف حصلت على تلك الذخيرة من الصبر وشُرب علقم عتب الناس لي.
الذي أتذكره أني أجبرتُ نفسي وقلمي وصوتي وكل صيحة وسكنة بداخلي على بلع تفاؤل بطعم العلقم ورائحة الإخفاق والألغام.
لا أنكر أن تفاؤلي المفرط قد يكون وضعني أمام حرج مع نفسي ومن يتابعني وإن كان كثير منهم يعرفون أني لستُ صاحب قرار، إنما صاحب صوت وكلمة، ومع ذلك لا أستطيع حصر مطر العتب الذي انهال فوق رأسي وأصاب صحوي ومنامي بدوار البحث عن الحقيقة والرد على التساؤلات.
وأصدقكم أيضاً، إن الإفراط بصوت السلام مع مليشيات كالحوثية وأي جماعة عنصرية وإرهابية تتدثّر بالدين والسلالية يُعتبرُ محكّ اختبار جديداً لعواطفنا التي تطغى أحياناً على تفكيرنا العقلاني وتهمل دروس الحياة غالباً.
صحيح أنا أتعاطف مع الناس الجوعى والمقهورين الذين يستمتع الحوثي بمعاناتهم وبشهية وسلوك يفوق وصف أي لغة عن التعبير، وأمام هكذا منهج قد يجدُ أمثالي أنفسهم أمام حسرة ولحظات صمت ومعها دموع مدرارة تُسكبُ مع دموع جموع كبيرة خسِرت أملا جديدا بعد ألف أمل سابق.
فعلاً، عبراتي اليوم تُسكبُ ليس هزيمة ولا تردداً، لكنها تُسكبُ لأجل دم آية صالح في قيفة البيضاء، ودم قلب الريمي في تعز الذي فجرته رصاصة قناص حوثي عشية وقفة يوم عرفة وهو في باب بيته وبين أطفاله.
لا أريد الإسهاب لكن ما أودّ قوله:
بطبعي شخصٌ متفائل وفي ذات الوقت أتعذّبُ مع الناس.
من يعتقد أني مرتاح فقد أخطأ ولا يعرفني.
أنا أجوع مع الجوعى وأسهر معهم، أبكي معهم وأشعر بغربة وفاقة معهم.
وآخر كل شهر أسأل نفسي صادقاً:
كيف يوفّر الآباء قيمة الحليب والدواء لأطفالهم في مناطق سيطرة الحوثي؟
من يدفع لهم إيجار مساكنهم والحوثي يقطع رواتبهم؟
صدقوني، أنا ضائع لضياعهم، متألم لألمهم.
أقسم أني أقاسمهم الوجع والشعور والإحساس والمأكل والمشرب.
كل أم مكلومة ومتعبة هي أمي.
كل أب خائر القوى هو أبي.
كل أسير لدى الحوثي هو أخي وابني، هو أبي وأمي هو قطعة من جسمي وروح من روحي.
كل شيخ يشعر بالعجز هو شيخي.
كل مثقف يكتب قصيدة ثورة ورفض للواقع هو شاعري، بل هو أنا.
وعن تعز أقول:
إن عدم فكّ الحوثي حصارها وما أتبعه من عنجهية عدوان على قيفة البيضاء هي رسالة أخيرة ومهمة ولعلها تحتاج استيعابا جدّيا من الجميع، وقبل هذا وذاك عرّت المجتمع الدولي ونوايا الحوثي.
ولا أريد في هذا السياق الإفصاح بأن استمرار حصار تعز ألجم لساني وأضعف دفاعي عن هدنة عجزتْ عن حماية أسرة واحدة في خطوط التماس.
اعذروني أضيف:
قابلت مؤخرا، وبالصدفة المحضة، يمنيا ميسورا من إب.
لا أدري كيف ألخّصُ لكم ما قاله لي.
سأوجز بعضه:
"قال لي حرفيا "تشتي تعرف الحوثي؟
قلتُ له: نعم.
قال: تعال إلى إب، و"عيّن" بنفسك، لكن أنت لا تقدر، عرفتك اليوم وكلمتك وأنت لا تعرفني".
وتابع: "يا ابني الحوثي جوع وبهذل بالناس كلهم وهو متعمد، حتى إنه خاف يوم فوز الناشئين في السعودية وخرّجوا كل طقومهم أمام السجن والبحث الجنائي وجنب الملعب".
وأضاف "لو خرج الناس يومها يطردون هولا الجُهّال حقهم إن قد فزنا بالوطن كله مش بكاس مثل المبخرة حقي".
أقسم لكم أن هذا كلامه، ولا أقلل من بطولة الناشئين لغرب آسيا طبعا.
سألته في آخر اللقاء: من يتحكم بإب؟
قال لي: "شخص من صعدة ومعه بيت المتوكل والشامي وسلاليين أيضا من السبرة وغيرها من مناطق إب".
قلتُ له والمحافظ!
قال: "لا تحرجني ولا أشتي أخليك تروح مدوخ للآخر قد زادوا شلوا (بيس) صندوق النظافة ويوردوها لهم لصنعاء وصعدة".
مختصراً كلامه: "الناس كلهم مراعين يحررون تعز ويقربون عندنا وأنا أوعدك إني أعزمك في بيتي في إب والقرية وفلّتي في الأصبحي بعد شهر.
إلى اللقاء..".
طبعاً لم آخذ رقمه، لكن لعل إب، بالنسبة لي، فيها مصادفات مدهشة واستثنائية في حياتي يكفيني منها يوم لا ينسَ في حياتي بعد مغادرتي الحبيبة صنعاء، سأفصحُ عن ذلك ذات يوم، هذا إن كان هناك فسحة في الأجل.
دمتم جميعاً بأمل وخير.