الصعود إلى قمَّة الزمن الجمهوري
كان مسار التطور في الزمن الجمهوري اليمني، شمالاً وجنوباً- على وجه الإجمال- يمضي في خط تصاعدي منذ 1962 إلى اللحظة التي جرى فيها تقويض الدولة المركزية عبر سلسلة من الأحداث الجسام ابتداءً من 2011 وحتى اليوم.
ومن يقولون إن الجمهورية [في الشمال] انتهت مبكراً- سواءً بانقلاب 5 نوفمبر أو بمقتل الرئيس الحمدي- سوف نحيلهم إلى خمسة اقتباسات/ شهادات كبداية فقط:
1) الحياة:
"إنّ الحياة والأرض في اليمن الآن [عام 1967] تمرّان بأكثر التغييرات فاعلية في تاريخ البلاد المليء بالمتاعب"، (إريك ماكرو، "اليمن والغرب"، ص41، وهذه العبارة وردت في مدخل الكتاب. وبحسب المترجم حسين العمري فالباحث ماكرو كتب هذه العبارة عام 1967).
2) الثورة:
"وفي يونيو 1974 قامت الجمهورية الثالثة [جمهورية الحمدي] رافعةً شعار سبتمبر، مقصيةً السبتمبريين تحت شعار التصحيح"، (البردوني، اليمن الجمهوري، ص398).
بعد أسطر قليلة يضيف البردوني: "واليوم ونحن في عام 1980 تبدو الثورة مشبوبة الأنفاس متوهجة الشباب"، (المصدر نفسه، ص399).
بالتأكيد البردوني أشاد بالحمدي بعد استشهاده، وربما رثاه تلميحاً في إحدى قصائده، وهذا موضوع له سياق آخر. وأنا لستُ أبداً من المتحاملين على الشهيد الحمدي، ولا أقلل من دوره في مسار التطور التاريخي الكُلّي، بغض النظر عمّا يقصده البردوني بإقصاء السبتمبريين، لكني في المقابل لستُ ممن يختزلون الزمن الجمهوري في العامين الذين تولّى فيهما الحمدي الرئاسة، ولستُ أيضاً ممن يعظِّمونه لأغراض غير شريفة هدفها النَّيل من آخرين.
3) نفوذ الحكومة الجمهورية:
عام 1978، قامت باحثة أمريكية من أصل عربي بزيارة منطقة الأهجر، شمال غرب صنعاء، لإجراء بحث ميداني أثنوجرافي.
وقد كتبتْ هذه الباحثة أنها عندما بدأت عملها الميداني كان نفوذ الدولة في تلك المنطقة في حدّه الأدنى، "والمدارس والطرق والمساجد التي شيّدتْ في الأهجر كانت بمساهمات محلية وفي إطار مشروعات التعاونيات التقليدية، والكهرباء ومطاحن الحبوب تم تنفيذها عن طريق رجال أعمال محليين، والخصومات كانت تُحلّ من خلال نظام الوساطات التقليدية".
وفي عام 1983، عندما عادت هذه الباحثة إلى الأهجر، وكذلك في زيارات أخرى لاحقة، كانت الآراء والمواقف قد تغيّرت بصورة جذرية، فالعديد من الخصومات صارت تحال إلى المحكمة الحكومية في مدينة شبام المجاورة، في حين تدهورت المشاركة الفعالة في الجمعيات التعاونية، وقد تحسَّن الطريق المؤدي إلى صنعاء، وتراجعت أهمية السوق الأسبوعي التقليدي وأفسح المجال أمام الأسواق الكبيرة في صنعاء وشبام. وأصبح الكثير من أبناء القبائل يضفون على أنفسهم لقب الفلاحين، وكانوا متحمسين في دعمهم وتأييدهم للرئيس.
وتروي الباحثة حادثة توضّح من خلالها الاحترام المتزايد للحكومة الجمهورية، فقد دعتها امرأة من نساء المنطقة لزيارتها إلى منزلها، وحدّثتها هذه المرأة عن مدى تأييدها للرئيس. (في ذلك الحين، 1983، كان هو الرئيس علي عبدالله صالح).
قالت هذه المرأة إنها كانت تؤيد الإمام قبل الثورة وأثناءها، وإنها وفي مناسبات كثيرة أثناء الحرب الأهلية، قامت بدفع مبلغ كبير إلى السادة في الهجرة كي يدعو الله أن يحفظ الإمام.
ثم أضافت هذه المرأة بحماس: "أما الآن الله يحفظ الرئيس ويجبرنا به". وأشارت الباحثة إلى أن أشخاصاً آخرين من سكان الأهجر عبّروا عن مشاعر مشابهة.
(لقراءة التفاصيل كاملة، يمكن العودة إلى كتاب "اليمن كما يراه الآخر"، الدراسة الخاصة بالباحثة نجوى عدرة، من جامعة هوفسترا - الولايات المتحدة الأمريكية، الصفحات 327 وما بعدها).
4) السيادة:
- عام 1956، عقَد ولي العهد محمد (البدر) صفقة سلاح مع الاتحاد السوفيتي، وعندما وصلت الصفقة إلى الحديدة، واستجابة لضغوط الإنجليز في ذلك الوقت، قرر الإمام أحمد، بعد توبيخ نجله في برقية، إبقاء شحنة السلاح في صناديقها في الميناء حتى تآكلها الصدأ، وهو ما أثار استياء الروس.
- عام 1976، أعاد الرئيس الحمدي شحنة سلاح روسية من ميناء الحديدة استجابة لضغط وتهديد السعودية. بعد ذلك وقعتْ المملكة مع الحمدي اتفاق سُمي "جرس السلام" يقضي باستبدال السلاح الروسي بالأمريكي والتخلي عن الخبراء الروس، وبالفعل تم تزويد اليمن بشحنة من الأسلحة الأمريكية بتمويل سعودي، وتم التخلي عن الخبراء الروس.
- عام 1978، وصل الرئيس صالح إلى السلطة. وفي عام 1979، اندلعت حرب بين شطري اليمن وكانت الكوادر اليمنية غير مؤهلة لاستخدام الأسلحة الأمريكية. اضطر صالح للاتصال بالروس، وكانوا مستاءين من موقف الحمدي السابق. لكنهم وافقوا على تسليح اليمن من جديد. وتم عقد صفقة سلاح بقيمة 750 مليون روبل.
السعودية غضبت أشد الغضب بل وطلبت إرجاع الصفقة.
ولكن نظام صنعاء رفض الطلب السعودي رفضاً قاطعاً.
يقول الرئيس صالح في حديثه مع الصحفي اللبناني نجيب رياض الريس: "كان السعوديون مصرّين على أننا إذا أردنا أن نحافظ على علاقات جيدة معهم، فعلينا أن نعيد السلاح السوفياتي، لأنه مخالف للاتفاق الذي عقده [الرئيس الحمدي] معهم. وكنا نقول لهم بإصرار وقناعة: إن أي قطعة سلاح تدخل اليمن، من أي مصدر جاءت، تصبح سلاحاً يمنياً. فنحن لا نستورد أفكاراً ومعتقدات من البلاد المنتجة أو المصدرة للسلاح. وتنويع مصادر السلاح هو حق من حقوق سيادة بلادنا".
5) الديمقراطية:
تقترب "التجربة الديمقراطية" في اليمن مما يُفهم عادة بالحرية: حرية الرأي، حرية التعبير، حرية الصحافة. وأعتقد أننا نتفق على أن تجربة اليمن هذه لا مثيل لها في العالم العربي".
هذا ما كتبه بول دريش، وهو باحث وعالم اجتماع بريطاني يُعدّ من أفضل الدارسين الأجانب للقبيلة في اليمن على الإطلاق. الاقتباس مأخوذ من مقالته التي نشرتْ في سبتمبر 1992 بعنوان "القبيلة والديمقراطية في اليمن" والتي اختتمها دريش بهذه العبارة: "ولا يزال لدى القبائل الكثير لتعليمنا إياه".
هذا كلّه كان قبل التطورات السياسية العظيمة اللاحقة التي شهدتها البلاد على جميع الأصعدة، وقبل الدورات الانتخابية المتتالية- سواء برلمانية أو رئاسية أو محلية- إلى عام 2006.
وهكذا، كان اليمن في المُستَهَل الرائع من كل شيء.
خمسون عاماً من عُمر الجمهورية لم تكن بالزمن الطويل.
إذ لا يمكن بلوغ الأسمى والأفضل في حياة البُلدان والشعوب بقفزة واحدة، خاصة عندما يكون هذا البَلَد هو اليمن، بتكوينه الغريب والمعقّد من جميع النواحي، وبقلّة موارده في مقابل كثافة السكان، وبإرثه التاريخي المجزّأ مع طفرات معدودة من التوحيد السياسي.
البردوني في كتابه "اليمن الجمهوري" كان ينبه قائلاً بعد حديثه عن الديمقراطية: "لا بد أن نعتبر أننا في مرحلة التأسيس وأننا نمارس تجربة خطيرة نحاول إيجادها لا تجويدها، لغياب الخلفية عندنا"، (اليمن الجمهوري، ص474).
وها هي البربرية- إلى جانب الضياع- قد نهضتْ من أعماق الأرض لكي تذكرنا بعواقب المبالغات، والتحليقات الفكرية والأخلاقية الزائفة، وتذكرنا بعواقب نفاد الصبر.
فانعدام الصبر يطلب المحال، يطلب نوال المآرب بدون الوسائل، كما كتب الفيلسوف الألماني هيجل، ("علم ظهور العقل"، ص29).