من الصعب ربما حد المستحيل، على جماعة من النمل أو النحل، أو قطيع من الذئاب أو الشمبانزي.. السماح لفرد من جماعة أخرى أو قطيع آخر بالانضمام إليها، والاندماج معها، كما لو كان فردًا في الجماعة أو القطيع.
 
وهذه هي "الهوية" في أبسط أشكالها: سياج لعزل الذات عن الآخر الغريب والمختلف، وهي هنا ظاهرة بيولوجية، غريزية لا واعية، وهذا لا يقلل من قيمتها وفائدتها، فهي على المستوى الحيواني قيمة ضرورية بشكل وجودي للبقاء والاستمرار.
 
وهي كذلك على الصعيد البشري، لم تعد المجتمعات البشرية ترفض انضمام فرد من مجتمع آخر إليها، كما تفعل النمل والذئاب؛ لكننا لم نصبح كائنات صناعية نولد في معامل للتفريخ، وننشأ في معسكرات حكومية معزولة، كما تخيل "الدوس هكسلي" في روايته "عالم جديد وشجاع".
 
ما زلنا نشعر بالانتماء الأسري، ونحرص على هذه الهوية الجينية التي لا مناص منها، فهي تولد مع الإنسان الذي لا يلبث أن يكتسب من بيئته هويات أخرى كثيرة: لغوية ووطنية وقومية ودينية وسياسية واجتماعية.. وكلها هويات مفيدة، ولا تعارض بينها بالضرورة، ويمكن إعادتها كلها بمعيار الأسس لكلٍّ منها، إلى نوعين:
 
"الهويات الجينية": "الجينات"، معلومات بيولوجية وراثية تنتقل بين الأجيال من الآباء إلى الأبناء، بشكل رأسي، وعلى أساسها تتحدد الهويات العرقية والسلالية. 
 
و"الهويات الميمية": "الميمات": معلومات ثقافية تنتقل عبر البشر بشكل أفقي ورأسي، عبر اللغة والبيئة، وعلى أساسها تتحدد الهويات السياسية والدينية والأيديولوجية..
 
على سبيل المثال، لون البشرة معلومة جينية نكتسبها من أحد الأبوين، وهي جزء من هويتنا الجينية، بينما شروط الصلاة معلومة ميمية، نتعلمها من المجتمع، وهي جزء مهم في هويتنا الدينية.
 
ولأن الجينات معلومات وراثية بيولوجية مادية، تتكاثر في الخصيتين، وتنتشر من خلال الجنس والإنجاب، بينما الميمات معلومات ثقافية نظرية، تتكاثر في العقل البشري، وتنتشر عبر اللغة والكتب والتعليم والإعلام.. قد يبدو أن الهويات الجينية أصلية موضوعية بخلاف الهويات الميمية النسبية الطارئة. 
 
لكن الحاصل أن بعض الهويات الجينية، ليست أكثر من هويات ميمية ثقافية زائفة، ولا تستند على أكثر من الوهم والخيال، والقدرة البشرية على صناعة وتطوير وابتكار الهويات، وإضفاء الأبعاد والقيم الميتافيزيقية عليها، وربما الجنوح بها إلى الرؤى والممارسات العنصرية.
 
في الثقافات "الطوطمية" تزعم كل قبيلة أنها متحدرة من نسل "طوطم" حيواني مقدس: أسد، أُسيد، نمر، نمير، كلب، ثور، عجل، ثعلبة، ضبيعة.. بالشكل الذي ظلت بقاياه ماثلة في معظم أنساب القبائل العربية الجاهلية. ربما كانت قريش تعتقد أنها من سلالة سمكة "القرش"، كما تقول بعض الروايات، ولا مشكلة في هذه الأوهام، وغيرها، طالما ظلت خاصة، المشكلة بدأت عندما تحولت هذه الأوهام إلى مواقف من الآخرين، زعمت بعض القبائل أنها من سلالة أفضل من سلالات القبائل الأخرى، بناء على خيال محض بأنها متحدرة من نسل: البطل أو الكاهن أو النبي أو الإله.. ومن هنا بدأت الأوهام السلالية تصبح مشكلة عنصرية.
 
حسم العالم السويدي الكبير "كارل لينيوس" "ت: 1778م" في وقت مبكر، هذه المسألة العنصرية علمياً بتأكيده أن البشر، كل البشر المعاصرين، ينتمون إلى جنس ونوع واحد أسماه "هومو سابينس" "Homo sapiens"، ووضعه على أحد فروع شجرة الحياة، بجانب أقرب الحيوانات إليه.
 
ومع ذلك ظلت أوهام التفوق السلالي ونزواته تضاجع أحلام الطغاة والانتهازيين حتى في الغرب المتقدم الذي ظلت بعض دوله إلى منتصف القرن الماضي، توظف حتى العلم ونظرية دارون، لتأكيد تفوقها السلالي، باعتبارهم أنصاف آلهة، في مقابل السلالات الأخرى، التي يجب أن تكون خادمة لها، كما في ألمانيا النازية.
 
تسببت تلك النزوة النازية بالحربين العالميتين، وهي صورة مكبرة عابرة لما يحدث في اليمن منذ أكثر من ألف عام، وما زال يحدث، من حروب ونزاعات تعود في معظمها إلى توهم فئة معينة بأن تحدرها من بويضة امرأة لها علاقة بالرسول، يمنحها امتيازات دينية وسياسية، ويخول لها ولأدعياء السلالة الهاشمية عمومًا، حكم بلدان المنطقة، على حساب شعوب يرون أنها أقل قيمة.
 
من سخرية القدر أن يبدي هؤلاء كراهية غير مبررة لليهود، اليهود عمومًا، وليس الصهاينة أو الإسرائيليين المحتلين، كما لو أن المسألة فقط حساسية أسرية، من قِبل "أبناء الرسول"، تجاه "أبناء الله"، الذين يستندون بدورهم على دين مؤدلج، يخوّلهم، باعتبارهم جنسًا خاصًا مقدسًا أثيرًا لدى الإله، باحتلال أراضي الآخرين، واستيطانها على حساب شعوبها الأقل آدمية وإنسانية!
 
بطبيعة الحال، لا معنى لهذه الترهات.. نعرف بأكثر مما يكفي أن الله ليس سلاليًا ولا سياسيًا، وأنه لو أراد احتكار السلطة السياسية في سلالة مقربة إليه، لاتخذ صاحبة وولدًا، واحتكرها في حكام يتحدرون من نسله مباشرةً!
 
هكذا يمكن رفض فكرة الحق الإلهي في السلطة، وبالذات حصره في سلالةٍ معينة، كما أن الحياة مبدئيًا؛ لم تعد تتقبل حقاً في السلطة قائمًا على أساس المفاضلة بين "الحيوانات المنوية"، بات انتقال السلطة يجري عبر صناديق الاقتراع لا عبر كيس الخصيتين.
 
....
*العنوان الأصلي للمقال "بين العقل والخصيتين"!

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية