في أخبار مُغرقة في التفاؤل، نقلت الصحافة الإيرانية مؤخراً عن مسؤولين في الحكومة قولهم إن المحادثات مع أوروبا «تسير بإيجابية» نحو الحفاظ على الاتفاق النووي، والالتفاف على العقوبات الأميركية عن طريق آلية «إنستكس» (INSTEX)، وإنهم ما زالوا ينتظرون رداً إيجابياً من دول الخليج حول اقتراحهم بإبرام «اتفاقيات عدم اعتداء» مع بعض دول الجوار.


والواقع أن اقتراح إبرام اتفاقيات عدم اعتداء من أغرب ما تفتقت عنه القريحة الإيرانية مؤخراً، فهو أسلوب قديم مرفوض كان يستخدم لتفريق الخصوم، برعت ألمانيا النازية في استخدامه، لتحييد بعض الدول مؤقتاً والتفرغ لمواجهة الخصم الأكبر.


فما زالت إيران تأمل في خلق خلاف بين الولايات المتحدة وحلفائها، بهدف إفشال خطط واشنطن الرامية إلى بناء تحالف دولي لحماية الملاحة في الخليج ومضيق هرمز من هجمات إيران المتكررة. فنرى جواد ظريف يحاول في رحلاته المكوكية في المنطقة وفي أوروبا أن يصرف النظر عن المواضيع الرئيسية التي تشغل العالم حول تصرفات إيران، حاصراً الموضوع في محاولة إنقاذ الاتفاق النووي الذي انسحبت منه الولايات المتحدة، والشكوى من العقوبات الأميركية.


فقد رفضت إيران، مباشرة وضمنياً، دعوات الولايات المتحدة ومجلس التعاون للتفاوض، أو مناقشة برنامج الصواريخ الباليستية، أو دعمها للإرهاب والطائفية، أو تدخلها في الشؤون الداخلية لجيرانها، وغير ذلك من الأمور التي تُقلق المجتمع الدولي. وبدلاً من ذلك، ترغب إيران في الحديث فقط عن تنفيذ البرنامج النووي (لا تعديله) والعقوبات.


أما مع الجيران، فإيران تستخفُّ بهم بطرح أفكار غير عملية وتعود لحقب بائدة، أو صُمِّمت عمداً لكي تُرفض. ومن تلك الأفكار مقترح ظريف الذي طرحه في مايو (أيار) الماضي، ثم في شهر أغسطس (آب)، بإبرام «اتفاقيات عدم اعتداء» مع بعض دول الجوار. وليس واضحاً تماماً هل هو مقترح جادّ أم يقصد به السخرية وشراء الوقت؟ هل ظريف يتذاكى أم أن ذلك منتهى معرفته الدبلوماسية والقانونية؟ فهذه الاتفاقيات لم تعد مقبولة، تعود لفترة ما قبل قيام الأمم المتحدة التي يمنع ميثاقها الاعتداء على الجيران، دون الحاجة إلى إبرام اتفاقيات بذلك.


أصبحت اتفاقيات عدم الاعتداء مشبوهة، خصوصاً بعد أن استخدمتها ألمانيا النازية وسيلة لتفريق الدول الأوروبية ثم ابتلاعها واحدة بعد الأخرى. فقد صادف الشهر الماضي ذكرى مرور 80 عاماً على أكثر تلك الاتفاقيات شهرة وربما أسوئها، تلك التي أبرمتها ألمانيا مع الاتحاد السوفياتي، في 23 أغسطس (آب) 1939، أي قبل ثمانية أيام من غزو بولندا وبداية الحرب العالمية الثانية في الأول من سبتمبر (أيلول).


ومن الواضح أن مقترح إيران بتوقيع «اتفاقيات عدم الاعتداء» جزء من ردّ إيران على الجهود الأميركية الرامية إلى تشكيل تحالف دولي لحماية أمن الممرات المائية رداً على هجمات إيران المتكررة على ناقلات النفط. فإيران ترفض هذا التحالف. ولكن من المُضحك أن يقول الرئيس روحاني إن دول المنطقة هي المعنية بتوفير تلك الحماية، وهو يعلم أن الهجمات السابقة على ناقلات النفط والتهديدات المستقبلية تأتي من دولة واحدة فقط هي إيران، وأن التحالف الدولي يهدف إلى ردع إيران، لا أي دولة أخرى.


وترمي مقترحات إيران هذه إلى زرع الخلافات بين واشنطن وحلفائها، وإضعاف فرص نجاح التحالف الذي تقوم الولايات المتحدة بتأسيسه لتأمين الملاحة.


وعلى وجه الخصوص، فإن اتفاقيات عدم الاعتداء مع بعض دول مجلس التعاون يُقصد بها تفريقها ومحاولة منعها من الانضمام لذلك التحالف. كما أن إيران تعلم أن دول المجلس أعضاء في «اتفاقية الدفاع المشترك»، التي تنص على الالتزام بمبدأ «الأمن الجماعي المتكامل والمتكافل» وأن الدول الأعضاء تعتبر «أن أي اعتداء على أي منها هو اعتداء عليها كلها، وأي خطر يتهدد إحداها إنما يتهددها جميعاً». ورغم الأزمة الخليجية فإن الاتفاقية قائمة وملزمة. ولذلك فإن الاتفاقيات التي تقترحها إيران تتناقض مع هذه الاتفاقية.


من المؤسف أن أفضل ما جادت به قريحة ظريف هي اتفاقيات تعود إلى حقبة سوداء من التاريخ الحديث، حينما تسببت الطموحات النازية في نشوب أكثر الحروب تدميراً، إذ استخدمت ألمانيا هذه الاتفاقيات وسيلة لتحييد جيرانها مثل الدنمارك، وإستونيا، ولاتفيا، فوقعت معها اتفاقيات عدم اعتداء في عام 1939، خلال الأشهر السابقة لغزو بولندا. أما روسيا فقد وقعت معها الاتفاقية، المعروفة باتفاق «مولوتوف - ريبنتروب»، قبل أيام معدودة من ذلك الغزو الذي أشعل الحرب العالمية الثانية. وبهذه الاتفاقيات استطاعت ألمانيا أن تُحيّد تلك الدول وتُوجّه إمكاناتها العسكرية إلى الجبهات الأخرى. فاستمر الاتفاق مع روسيا نافذاً إلى عام 1941، حين تفرغت ألمانيا لغزوها هي الأخرى.

 

وفي منطقة الخليج، طرح صدام حسين، وهو يخطط لغزو الكويت قبل ثلاثين عاماً، توقيع اتفاقيات عدم اعتداء مع جيرانه، للغرض نفسه، أي تحييدهم والتفرغ لغزو الكويت. ومن المفارقات أن ظريف اختار الكويت ليعلن منها مقترحه.


منذ قيام الأمم المتحدة واعتماد ميثاقها في عام 1945، تخلى العالم عن مثل هذه الحيل القانونية، لأن تنفيذها والالتزام بها يعتمدان على حسن النية والثقة بين الجانبين. وبدلاً من ذلك، وضع الميثاق قواعد مُلزمة لتنظيم العلاقات بين الدول ومنع الاعتداء بينها، دون الحاجة إلى توقيع اتفاقيات لذلك.


في الاتصالات مع إيران وفي بياناته الرسمية، طرح مجلس التعاون أن ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي ينبغي أن تكون الأساس الذي ينظم العلاقات بين الدول، إذ تقضي تلك القواعد بوجوب احترام الحدود والاستقلال السياسي وسلامة الأراضي الوطنية للجيران. وتمنع استخدام القوة أو التهديد بها. ولكن إيران بدلاً من ذلك تطرح مقترحاً يعود لفترة ما قبل تأسيس الأمم المتحدة، ما يعني أنها لا ترغب في الاحتكام إلى ميثاق الأمم المتحدة أو مبادئ القانون الدولي، وهذا هو صُلب المشكلة بين طهران ومجلس التعاون.

 



* نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية

أخبار من القسم

تطورات الساعة

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية