إيران التي اعتقدت أنها نجحت في أن تأسر المنطقة كلها بإيقاعها الجنائزي تعيش اليوم لحظة عودتها إلى خيار الصفر.

 

فاروق يوسف
فاروق يوسف

 

حصر نظام الملالي إيران بسياساته المتخلفة التي استحق بسببها النبذ والإقصاء إقليميا وعالميا.

 

وإذا ما كان من البديهي أن يتبنى نظام شمولي مثل النظام الإيراني سياسات لا تعترف بالقانون الدولي الذي ينظم العلاقات بين الدول، فإن الشعوب الإيرانية ظُلمت مرتين. مرة حين تسلط عليها نظام قمعي لا يعترف بحقوق الإنسان ولا بقداسة الحياة ولا بمبادئ السلام والإخاء والحرية. ومرة أخرى حين تعرضت للعزل والإقصاء بسبب موقف العالم المشمئز من تصرفات النظام الإيراني.

 

لم تلعب إيران دورا إيجابيا في المنطقة ومن ورائها العالم منذ حوالي أربعين سنة حين وضعها الملالي في موقع الوصيّ على شعوب الدول المجاورة لها والتي تربطها بالشعوب الإيرانية علاقات تاريخية، ثقافية واجتماعية واقتصادية وطيدة والتي كانت تتمنى أن ترى في إيران دولة جارة تتحرر من عقدة شرطي الخليج.

 

غير أن إيران التي يُفترض أنها غادرت عصر التغطرس الشاهنشاهي لم تثبت أنها قد تحررت من عقدتها القومية. العكس هو ما حدث. لقد ابتكر الخميني، وهو مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران، مبدأ "تصدير الثورة" وربط مصيرها به. وهو ما لم تتمكن من الخلاص منه حتى بعد حوالي ثلاثين سنة من غياب الخميني. كان مبدأ تصدير الثورة الذي تبنته إيران الخمينية أكثر شراسة وفتكا بأصول وقوانين العلاقات بين الدول والشعوب من دور شرطي الخليج الذي كانت تلعبه إيران محمد رضا بهلوي.

 

فإضافة إلى ما ينطوي عليه ذلك المبدأ من عدوانية وتدخل سافر في شؤون الدول والشعوب، فإنه يهدد بعسكرة المنطقة ونشوء علاقة بين دولها قائمة على سباق تسلح، ينذر بقيام الحرب في أي لحظة. وهو ما صار اليوم واقع حال تعيشه دول وشعوب المنطقة بذعر.

 

لقد تحولت دول المنطقة إلى ما يشبه مخازن للسلاح ضاقت الأرض والفضاء بمحتوياتها. فمَن يضمن عدم وقوع صدام عن طريق الخطأ سيكون بمثابة شرارة لنار قد لا تنطفئ؟

 

ما صارت الدول المجاورة لإيران، وبالأخص الدول العربية، مضطرة للقيام به دفاعا عن النفس لم يكن ليقع لولا برامج التسلح التي أهدر النظام الإيراني في الإنفاق عليها ثروات كان في إمكانها أن ترتقي بالشعـوب الإيرانية إلى مستوى الترف والرفاهية لو أنها أنفقت في مجال تطوير الحياة وتطوير أساليب العيش.

 

غير أن نظاما شموليا يستند إلى التفويض الإلهي مثل النظام الإيراني لا يمكنه الالتفات إلى الإنسان إلا باعتباره مادة لحروب دائمة.

 

لقد أفضت لغة القوة التي أشاعها النظام الإيراني بين صبيانه المحليين في الدول التي نجح في التغلغل فيها إلى الإيمان بحق استعمال السلاح لحل المشكلات السياسية، صغيرها وكبيرها. وهو ما يجسده تعامل حزب الله مع شركائه المفترضين في العملية السياسية بلبنان.

 

حزب الله باعتباره صنيعة إيرانية يؤمن هو الآخر بحقه في تصدير مشروعه القاضي بإعادة صياغة المجتمع وفق مقاييس تقدم الموت على الحياة خدمة للعقيدة، وهو ما يجعله وفيا لخط الإمام الخميني الذي تشكل الجنائز واحدة من أهم علامات الإشهار عنه.

 

يمكن رؤية النموذج الذي تسعى إيران إلى تصديره إلى البلدان التي نُكبت بقيام الميليشيات الطائفية صريحا وواضحا في الضاحية الجنوبية، وهي حقل ألغام بشرية أنشأه حزب الله في بيروت.

 

يتساءل المرء حين تستفزه المشاهد الرثة المدعومة برياء إعلامي مضلل يتخذ من القتلى المجانيين ستارا له بطريقة تهريجية "أهذا مستقبل المنطقة الذي تبشر به إيران؟". منذ أربعين سنة تعيش إيران حالة طوارئ.

 

من الطبيعي ألا يتمنى المرء للشعوب الإيرانية أن تقضي حياتها في ظل وضع لا تُصان فيه حريات الأفراد، ولكن الأمر سيهون لو كان حصرا بالداخل الإيراني. لقد أدى جنون النظام الإيراني إلى انتشار الذعر، فصار على المنطقة كلها أن تعيش حالة طوارئ.

 

إيران التي اعتقدت أنها نجحت في أن تأسر المنطقة كلها بإيقاعها الجنائزي تعيش اليوم لحظة عودتها إلى خيار الصفر. ذلك الخيار سيعيد إيران إلى حجمها الطبيعي، وهو ما سيسمح للشعوب الإيرانية بأن تطالب بالعيش خارج منطقة حالة الطوارئ التي فرضت عليها بموجب مبدأ تصدير الثورة الـذي سيصبح جزءا من الماضي إذا ما وافق النظام على تنفيذ الشروط الأميركية.

 

أما إذا لم يوافق وهو أمر مستبعد، فإن ذلك النظام سيكون أمام استحقاق تاريخي تأخر كثيرا. صحيح أن ذلك الاستحقاق سيجلب معه حلقة جديدة من حلقات المعاناة التي ستضرب الشعب الإيراني، غير أنها ستكون باب الفرج الذي ينفتح على الحرية من خلال التخلص من سماسرة المسيرات الجنائزية.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية