في الواقع، لعل الخطر الأعمق في أيديولوجية العشيرة المقدسة يتموضع في الحضور المكثف لمقولات فارسية زرادشتية أهمها معركة الخير والشر، وما يتصل بعقيدة الخالدين المقدسين، والتقسيم الثابت للمجتمع الذي تتسم به ديانات منحدرة من أصول آرية بالخصوص الزرادشتية والهندوسية، المتأثرتين بحكم التجاور الجغرافي والأصل الواحد.

 

قد يبدو للوهلة الأولى أن المقولات الثلاث منفصلة عن بعضها، لكن الحقيقة أنها مترابطة ومنضوية في عقيدة الصراع بين الخير والشر، وهي مدار النقاش المقتضب التالي.

 

فكرة صراع الخير والشر، معقولة ومنطقية، وواقعية ليس في الحياة البشرية فحسب، وإنما تكاد تتخلل كل مظاهر الكون، والثنائية التي يبدو عليها، بروتونات وإلكترونات، موجب وسالب، نهار وليل.....إلخ.

 

وفكرة الصراع بين الخير والشر، أو ما يجب وما لا يجب، تجد لها حضوراً، ربما في سائر الفلسفات والديانات، كل هذا صحيح وإن كان هناك من فوارق فتتركز في أن هذا الصراع يمثل لب الديانة الفارسية الزرادشيتية وعمودها الفقري، بجوار الطبيعة الحدية التي أضفتها على المفهوم، فالخير محض أو مطلق، والشر محض، أو مطلق، إذا كان ذلك كذلك فأين الخطورة في الفكرة على المجتمع الإسلامي، وما علاقتها بالعشيرة المقدسة، وما التداعيات السلبية في الأمر؟

 

الجواب يقع في بلورة بند أيديولوجي يضع العشيرة المقدسة (الخالدين المقدسين) في قلب الخير المطلق، ومن يقف في رفض التبعية للعشيرة ينحدر إلى قلب الشر المطلق، ولأن غير المسلم لا يعنيه صراع العشيرة المقدسة من أجل الاحتفاظ بامتيازاتها في مواجهة غيرها، فإن الصراع بالضرورة، ستكون ساحته الداخل الإسلامي، وفي هذه النقطة تحديداً مارست الفارسية فعلها الانتقامي والثأري على ثنائية عروبة – إسلام، وحولت وجهة الصراع من خارجي (إسلامي – غير إسلامي) إلى داخلي (إسلامي – إسلامي). وتدعيماً لهذا الاتجاه تسلسل البناء الأيديولوجي الفارسي للفكرة الشيعية – التعاطفية في أصلها العربي – بإدراج فكرة الاغتصاب – الاسترجاع – الثأر، أي اغتصاب الخلفاء الأوائل حق الولاية السياسية المقدس للإمام علي، الأصل الجيني للعشيرة المقدسة، ثم على يد الأمويين، والعباسيين، والسعي لاسترجاع هذا الحق والانتقام من المغتصبين، وكون المغتصبين للحق المقدس هم قرشيين عرب إبان البلورة الأيديولوجية للتشيع، ولأن القرشية بامتداد الزمن صارت غير واضحة بيولوجيا، فمن الطبيعي أن يكون العرب خصوصاً، والمسلمون عموماً هم المحور الطبيعي للعملية الثأرية، لا سيما وقد تم إلباس الاتجاه الإسلامي غير الشيعي أو السني تحديداً عباءة أيديولوجية معادية لحق العشيرة المقدسة، وهذا ما تنفيه الأدبيات السنية منذ النشأة الأولى، ولا نحتاج للتفصيل في هذه العجالة.

 

وحتى لا يكون ما سبق مجرد افتراءات غير موضوعية، فليس أقل من الدعوة إلى المرور بالذاكرة التاريخية على دور الموالي، من مجال الثقافة الفارسية، في تنظيم إسقاط الدولة الأموية تحت مقولة "الدعوة إلى الرضا من آل محمد" – وعلى الطريق نتساءل.. من هم آل علي؟ - وانطلاق عملية الإسقاط من خراسان، ودور أبي مسلم الخرساني الذي تذكر بعض المصادر أنه من نسل الأكاسرة، وبعد فترة التسلل إلى مفاصل الدولة العباسية، ومعاملة الخلفاء العباسيين – بني عمومة العلويين – على يد البويهيين الشيعة الوافدين من النطاق الفارسي، وأخيراً دور ابن العلقمي الشيعي في التواطؤ مع المغول والإسقاط المأساوي للخلافة العباسية.

 

وعندما قامت دول شيعية كان اتجاه عملياتها العنفية في الوسط الإسلامي، كدولة القرامطة شرق الجزيرة العربية وأخذهم الحجر الأسود من الكعبة لأكثر من عشرين سنة، وحرق إبراهيم بن موسى الكاظم لمدينة صعدة.

 

ربما كان صغر النطاقات الجغرافية للدول الشيعية – ونعيد التأكيد على أن غالبيتها في المجال الثقافي الفارسي – ووقوعها في وسط محيط إسلامي غير شيعي جعل مسألة الصراع في الداخل حتمية، بدليل تاريخي يشير إلى صراع الدولة الحمدانية والدولة الفاطمية مع الصليبيين بسبب وضع التماس الحدودي بين الدولتين والصليبيين، ما أتاح لهما الإسهام في الحركة الجهادية الإسلامية ضد غير المسلمين، الوجه الثاني، والأهم للواقعة التاريخية الحمدانية والفاطمية يؤكد أن حالات الصراع مع الصليبيين كانت أقرب للمناوشات منها إلى معارك كبيرة، فرضتها الحدود المشتركة. ودعونا نأخذ الدولة الفاطمية كأهم وأكبر الدول الشيعية في التاريخ الإسلامي، فبالرغم من مساحتها التي شملت ما يقارب نصف مساحة العالم الإسلامي وقتها فإنها لم تفعل الكثير لأجل طرد الصليبيين من الشام، وإن حدثت عملية استرجاع لمدن فلسطينية مهمة فكانت في عهد ضعف أو صورية الخلفاء الفاطميين في الحكم لصالح الوزراء الأقوياء، وبالتحديد أن أهم حملات الاستعادة كانت في عصر الوزير المفضل بن بدر الجمالي، الذي كانت ميولة غير شيعية، إضافة إلى أن الدولة الفاطمية تكاد تكون حصرت نزاعاتها مع الدولة العباسية، فيما على المستوى الخارجي لم تساعد مسلمي الأندلس، ولم تقم بالدور الذي قامت به دولة الأغالبة – التابعة اسمياً للخلافة العباسية – سابقاً في جزر البحر المتوسط، أو القيام بمجهودات نشر الإسلام في أفريقيا السوداء، كما فعل المرابطون أو المماليك بعدهم.

 

وفي المقام تجدر الإشارة إلى أن مؤسس الدولة الفاطمية عبيد الله المهدي شرع في بدايات حكمه في شمال أفريقيا على خلع لقب الخليفة على نفسه، مدشنا بذلك الشَق النظري والعملي للرمزية الوحدوية الإسلامية لمفهوم الخلافة، بعد أن سبق اعتماد مفهوم الإمامة كبديل للخلافة في العرف النظري الشيعي. وعقب ذلك أعلن الأمير الأموي بالأندلس نفسه خليفة ثالثا في النطاق الإسلامي، مع التنويه إلى أن الأمويين منذ استقلوا بالأندلس عن الدولة العباسية ظلوا حريصين على إبقاء منصب الخلافة كرمز لوحدة المسلمين فلم يعلنوا أنفسهم خلفاء في ظل وجود الخلافة العباسية إلا بعد تجرؤ الفاطميين على ذلك، رغم قيام الدولة العباسية وخلافتها على أنقاض دولة الأمويين وخلافتهم، وتنكيلها ببني أمية، قتلا وتشريدا، بل ونبشا لقبورهم.

 

وفي عصور أقرب ركزت الدولة الصفوية في القرن السادس عشر الميلادي صراعاتها مع العثمانيين غربا، والأوزبك المسلمين شرقاً، رغم تمدد المستعمرات البرتغالية في مراكز ساحلية بعضها في مناطق إسلامية متاخمة، غير وجود تماس جغرافي من ناحية الشمال مع مجالات غير إسلامية. وهذا هو حال دولة الملالي اليوم في إيران التي توجه عداءاتها الشعاراتية إلى الخارج غير المسلم الولايات المتحدة الأمريكية، وإسرائيل بينما عملياً تتركز سياساتها العدائية في المنطقة العربية.

 

قد تواجه الإشارات الآنفة بتنفيذها على حالات صراعات أو دعونا نقول نشوء دول غير شيعية، أو سنية، وتمددها على حساب دول مصنفة سنياً وما رافقه من نزاعات عسكرية وحروب في الداخل الإسلامي، وهذا واقع يحمل قدراً من الصحة سيما والتاريخ يسجل قيام دول سنية على أنقاض دول سنية آخرى، إلا أننا لو عدنا مجدداً إلى التاريخ بتناول دول سنية مهمة نجد قدراً من الفعل الخارجي بجانب الداخلي، وإذا صرفنا النظر عن دور الدولة الأموية – رغم عدم تبلور العقائد والمذاهب الإسلامية خلال عهدها – في تأسيس إمبراطورية إسلامية تمتد حدودها من غرب الصين شرقاً إلى جنوب فرنسا والمحيط الأطلسي (بحر الظلمات) غربا وما وفرته من إزالة عوائق السلطات غير الإسلامية أمام انتشار الإسلام في هذه الأرجاء الواسعة. إذا صرفنا النظر عن ذلك فنلاحظ أن الدول الشيعية لم تضف – إجمالاً – مساحات جديدة للعالم الإسلامي.

 

توجه السلاجقة للسيطرة على أراضي الخلافة العباسية في الشرق، لكنهم أضافوا ما يعرف اليوم بتركيا إلى الإسلام، وكانت تابعة للدولة البيزنطية، في حين أن البويهيين الشيعة اقتصرت أعمالهم في السيطرة على الخلافة العباسية.

 

وركزت جرائم تيمورلنك – الشيعي – على الأراضي والمجتمع الإسلاميين حتى كاد أن يسقط الدولة العثمانية في بدايات عهدها، والتي كان لها دور لاحق في مد النفوذ الإسلامي – للأسف سياسياً فقط- في أوروبا.

 

ويمكن أن يقال الكثير عن استعادة الدولة الأيوبية – التي قامت على أنقاض الفاطميين – لأراضي إسلامية من الصليبيين، وطردهم نهائياً على يد الدولة المملوكية وإيقافها الزحف المغولي غرباً عقب إسقاطه الخلافة العباسية وضمها السودان إلى الجغرافية الإسلامية، وكذلك دور المرابطين في نشر الإسلام جنوب الصحراء الأفريقية، ومساعدتهم مسلمي الأندلس.

 

قد يقال إن التوسع الإسلامي، العنيف في كثير من الأحيان، في الجغرافيات غير الإسلامية، يعبر عن النزعة العدائية للإسلام السني، في مقابل رغبات السلام الشيعية، ما يشكل إدانة للأول وميزة للثاني. وهذا صحيح جداً وفق الثقافات الليبرالية والعلمانية السائدة في الوقت الحاضر – صحيح نظرياً فقط -، لكنه لم يكن كذلك حينها، وقبل مناقشة هذه النقطة ننوه إلى أن الإشكالية لا صلة لها بميول السلام أو العنف وإنما بوجهة النزعات العنفية، وبصورة أوسع الصراعية، فهي تتمركز في الحالة الشيعية على الإنهاك الإسلامي الداخلي وتوجيه مسار الصراع إلى الداخل الإسلامي.

 

نعود إلى الصراع مع الخارج الذي طبع الإسلام السني، بالإشارة أولاً إلى أن الفتوحات الإسلامية هي سلوك نبوي تسجله معارك الإسلام الأولى مع المشركين واليهود في العهد النبوي، مع التأكيد على أنها كانت بدوافع سياسية دفاعية ووقائية ليس غرضها فرض الدين الإسلامي على الغير بالقوة، ويكفي أن نلفت كمثال إلى أن انتشار الإسلام في مجتمعات شمال أفريقيا، ليصير هو الدين الأول هناك استغرق أربعمائة سنة رغم استكمال فتحها السياسي والعسكري أواخر القرن الأول الهجري.

 

يقتضي الإنصاف لتفسير الفتوحات في قدر من الفصل بين الإسلام كدولة والإسلام كدعوة، كان من حق المسلمين – كغيرهم – أن يبنوا سياجاً سياسياً يحمي دعوتهم، وهو حق مشروع ولاغبار عليه في منطق كل الثقافات الماضية، بل ومازال فاعلاً بصور مختلفة في عالم اليوم. وفي المضمار لانكاد نجد مثالاً لانتشار الثقافات، وبمعنى من المعاني الأديان، دون حامل سياسي، من التبني الرسمي لأديان معينة للسومريين، والفراعنة وما تلاهم من حضارات شرقية، مروراً بإسهام فتوحات الإسكندر في نشر الثقافة اليونانية، ودور الفتوحات الرومانية بعد تبني السلطات للمسيحية كدين رسمي في زيادة انتشار هذا الدين ثم فتوحات شارلمان في تمكين المسيحية، وصولاً إلى تمهيد الاستعمار الحديث الطريق أمام المبشرين في آسيا وأفريقيا وأمريكا في جعل الدين المسيحي يحتل المرتبة الأولى من حيث عدد المعتنقين له في العالم، وتحت مبررات كان من بينها رسالة الرجل الأبيض أطل القرن العشرون ودول بريطانيا وفرنسا وروسيا تسيطر على نصف مساحة العالم وثلث عدد سكانه.

 

وكما تمت الإشارة سابقاً إلى صراع الخير والشر، نؤكد أن الحياة تسير وفق حقيقتي الصراع والتكامل، ويشتمل الجانب الصراعي على قلق الإحساس بالخطر سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، وهو يكون حاضراً في السياسة بصورة واضحة ومهيمنة، لأن بث وتدعيم القلق من خطر ما، أكان حقيقاً ام مزيفاً، يساعد على تماسك المجتمع السياسي والتفافه حول السلطة، وهو ما يحتاجه أي حاكم، وما نعايشه يظهر أن الصراع هو الوجه الأبرز في المسار السياسي بين الدول، إذن فالصراع ظاهرة طبيعية ولصيقة بالمجتمعات البشرية، وما يختلف هو وجهة الصراع، داخلي أم خارجي، وشكله، سياسي، عسكري، ثقافي وغيرها، وما محاولات الاستقرار داخل أي مجتمع، او بين المجتمعات إلا مساعي – إيجابية بطبيعة الحال – لتقنين الصراعات والتخفيف من حدتها ونتائجها. ولا يخرج التوسع أو الفتوحات الإسلامية وغيرها عن القاعدة مع التأكيد مجدداً أن الفتوحات الإسلامية وتوسيع حدود الدولة كان مساعداً في نشر الدعوة بمنع السلطات غير المسلمة في البلدان المفتوحة من الوقوف أمام العمل الدعوي، ولم تكن السياسة بالنسبة للإسلام أداة لفرضه مثلما حصل في ديانات آخري كالمسيحية في أوروبا شارلمان، فكان الإسلام أكثر سلاماً وتسامحاً مع الغير إذا ما قارناه بديانات أخرى.

 

سلسلة حلقات تنشرها  وكالة 2 ديسمبر من ملف بعنوان (السرطان الفارسي) – الحلقة الخامسة..

 

لقراءة المزيد:

السرطان الفارسي.. وهم التفوق الحلقة 1  

السرطان الفارسي.. مقاومة الإسلام الحلقة 2

السرطان الفارسي.. القبيلة أولا الحلقة 3

السرطان الفارسي.. العشيرة المقدسة الحلقة 4

أخبار من القسم

تطورات الساعة

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية