وهنا تسلل الفعل الفارسي إلى منظومة الفكر والثقافة الإسلاميين والبناء على التشيع القبلي الساذج في عهد الإمام علي، ثم المصلحي في عهد المختار الثقفي، وعلى التبريرات والمظاهر الدينية المشتتة والمحدودة والضعيفة التي رافقت حالات التشيع الأولى، لإعطاء التشيع صبغة أيديولوجية تزاوج بين الثقافة الفارسية، والثقافة القبلية، والتعاطف مع البيت العلوي.

 

ونجح الفعل الفارسي في خلق ما نستطيع تسميته "العشيرة المقدسة" داخل الفكر الإسلامي، ما عزز الثقافة القبلية العربية، وألبسها جلباباً دينيا وراثيا، له تداعياته العميقة في الثقافة الإسلامية.

 

فبينما كانت المكونات القبلية والعشائرية، متغيرات اجتماعية قابلة للتطور والتعديل، والتهميش لصالح روابط هوياتية جديدة وأكثر قدرة تجميعية، وبينما كانت زعامة القبيلة في الأعم الأغلب تقوم على مبدأ الاختيار لا الوراثة، صارت مع مفهوم "العشيرة المقدسة" ثابتاً دينيا ذا طابع وراثيً.

 

بالطبع، ذكرنا سابقاً، أن التيار السني أكد على مبدأ "القرشية" كشرط من الشروط الواجب توفرها في الخليفة، غير أن هذا كان موقفاً قابلاً للتأويل والتعديل، كون النصوص الدينية المنسوبة للنبي بهذا الخصوص أخبار آحاد في عرف المحدثين السنة، تعارضها أخبار آحاد آخرى مثل "اسمعوا وأطيعوا وإن ولي عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة" وهذا النوع من الأخبار يبقى في دائرة الظن لا اليقين.

 

الأهم، أن القضية السياسية لدى الفكرين السني والخوارجي تظل شأناً اجتهادياً، بمعنى أن الأمة وفق صيغ عملية هي من تختار الخليفة، وإن حاولت في مساعيها لبناء نظريات سياسية أن تضع شروطاً للخليفة، هي في حد ذاتها اجتهادية.

 

وبالعكس، اعتبر الفكر الشيعي الإمامة (المسمى الشيعي للخلافة) شأناً نصياً، بمعنى أنه اختيار إلهي لا دخل للأمة فيه، وانتهاكه يمثل مخالفة جسيمة لأصل ديني محوري، إضافة إلى أن الموقف من الإمامة أو الولاية يعد القاعدة الأساسية لبنية الفكر الشيعي، ويشكل أيديولوجية متماسكة نظرياً استلزمت تجيير كثير من النصوص القرآنية والحديثية لتدعيمها.

 

ما قام به الفعل الفارسي هو باختصار أدلجة التشيع العربي الساذج، وبلورة ملامحه الرئيسية خلال ثلاثة قرون، نضجت في عملية تكثيفية على أيدي الطوسي، والكليني، والصدوق، وهم فرس وأصحاب المراجع الشيعية الأساسية، غير التسللات الفارسية عبر أشخاص ينتمون للمجال الثقافي الفارسي ضمن ما صنف في خانة التراث الإسلامي السني.

 

تكمن خطورة الأدلجة القائمة على مزج الديني والقبلي "العشيرة المقدسة" في عدة مستويات تؤثر سلباً في الثقافة والفكر الإسلاميين.

 

الجمود عند العشيرة يعيق الفكر الإسلامي في بناء نظرية سياسية إسلامية مرنة وقادرة على تفاعل إيجابي يتيح لها الإفادة من أية نظريات أخرى أو استيعاب المفاهيم السياسية في الأمكنة والأزمنة المختلفة.

 

بمستوى أوسع، إن قولبة الإسلام بمدى عشائري قبلي ضيق يسهم في إعاقة حركته عبر الثقافات، لهذا نكاد نرى الفكر الشيعي منحصراً في المجال الثقافي للدولة الفارسية الساسانية، وربما، لولا "الحامل الصوفي" للتشيع لوجدنا الفكر الشيعي محصوراً في نطاقات جغرافية وسكانية أضيق في مقابل التواجد الإسلامي السني. قد يتم اللجوء في هذا المقام إلى مبرر دور السلطة السياسية في النشر المذهبي، وتأثير السلطة السنية أكثر فترات التاريخ الإسلامي بمواجهة الوضع المعارض للتيار الشيعي في تشكل الخريطة المذهبية. رغم الصحة النظرية، وإلى حد ما العملية في الدفع السياسي للدين والمذهب، إلا أن الحالة ليست دقيقة، فما تم تصنيفه كسلطات سنية لم تكن ذات حساسية مذهبية وبخاصة إذا لم يرتبط الفعل المذهبي بالفعل السياسي، لعلنا نلمس ذلك في تولي شيعة لمواقع مهمة في العهد العباسي، بل والسيطرة الفعلية على منظومة السلطة لأكثر من قرن كما حصل في الهيمنة البويهية على الخلافة العباسية، إلى جانب أن مجموعة من مراكز النشاط الشيعي كانت قريبة من مركز السلطة في العراق، وبغداد عاصمة الخلافة العباسية. كما أن ما عُرف بالسلطات السنية، كانت في فترات القوة منشغلة في صراعات خارجية.

 

وإن اعتبرنا الدور الحاسم للسلطة في النشر المذهبي لاحتجنا إلى إجابات عن حالات انعدام، أو شبه انعدام للتشيع في جغرافيات حكمتها سلطات شيعية عملت جهدها في نشر المذهب كمصر وشمال أفريقيا والشام وغرب الجزيرة العربية إلى اليمن، في العهد الفاطمي الذي استمر ما يزيد على قرنين ونصف.

 

ولو قلبنا صفحات التاريخ لرأينا بوضوح أن أغلب الدول الشيعية ظهرت في النطاقات الجغرافية الساسانية الفارسية، ما يوحي بمدى الاستعداد الثقافي أو النفسي الجماعي لشعوب تلك النطاقات في التفاعل الإيجابي مع فكرة العشيرة المقدسة وبنودها الأيديولوجية.

 

فكرة العشيرة أو القبيلة المقدسة، ربما يكون لها دور كبير في محدودية الانتشار المذهبي الشيعي، وهو انتشار في أغلب الأحوال داخلي أكثر منه خارجي، حيث كان الأداء الشيعي ضعيفاً في جذب إضافات سكانية، وجغرافية غير إسلامية إلى الإسلام، وبدلاً من ذلك حرص التوسع الشيعي على القضم من الثقل السني بوسائل عديدة ليس محلها النقاش هنا.

 

كان طبيعياً أن تخفض "العشيرة المقدسة" القدرات الشيعية في عملية الاسهامات بانتشار الإسلام، لأنها بطبيعتها تطرح الإسلام في إطار مختزل ينافي الأفق الإنساني الكامن في الرسالة الإسلامية، وبصورة أعمق يعمل على إحياء تقاليد فكريه دينية وثنية في أصولها منبثقة من قداسة الملوك، وتحديداً في هذا الموضع معتقد الأسرة الملكية الساسانية المقدسة.

 

فوق ما سبق تكمن خطورة أيديولوجية العشيرة المقدسة في مستويين مؤثرين بشكل كبير على مسار الفكر الإسلامي، وتداعياته على حياة المسلمين في إبقائهم مشدودين إلى حالة جمود ماضوي تعود جذوره إلى ما قبل الإسلام.

 

أحدها، إعادة تدوير نظام الكهانة في الثقافة الإسلامية، وما تعنيه من إقامة قنوات بشرية خاصة تتوسط العلاقة بين الله والبشر، وتحتكر تفسير النص الديني، تناقضاً مع الموقف الصريح للإسلام من المسألة، "اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء".

 

"اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ" "ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً من دون الله" كما جاء في القرآن الكريم، وتأكيده قرب النص الديني من الفهم العام، "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ" وتكرار هذه الآية تحديداً وبلفظها أربع مرات مالا يتوافر إلا لآيات قليلة في القرآن يؤكد إلحاح المبدأ اللا كهنوتي في فهم النص الديني القرآني، وإن كان في الحقيقة لا يتعارض مع إمكانيات التخصص في دراسة المقولات الدينية للانتقال إلى مستويات معرفية أعمق، كمميزاته النظمية على المسار البلاغي اللغوي.

 

إن عملية احتكار التفسير بحد ذاتها تجمد الإسلام في قوالب غير قابلة للنقاش والتطوير، وتعطيها صبغة إلهية ترتقي إلى القوة الإلزامية للنص نفسه، بسبب صفة القداسة التي وسمت بها العشيرة في أساس بناء الأيديولوجية وما تستدعيه القداسة – بالضرورة – من عصمة وعدم قابلية للخطأ.

 

ولا تقتصر بشاعة الفكرة الكهنوتية على قداسة التفسير، لأن التفسير يظل بشكل أو بآخر دائراً حول النص، إنما تتجاوزها إلى الإضافات الكهنوتية اللازمة للتعاطي مع حالات غير نصية من مستجدات الظروف، ما يؤدي إلى تضاؤل حضور النص الأصلي الإلهي عبر الزمن أمام النصوص الكهنوتية المضافة، وبالنتيجة مسخ هوية الدين الإسلامي المفترض بناؤها على النص الأصلي لصالح هويات تعكسها خلفيات الكهنة تضعف فاعليته في التعامل من موقع قوة في ساحات تنافس الأديان والفلسفات، وتقلص طاقة الحصانة والإبداع لدى حملته نتيجة التوسع في قولبة المتغير الواقعي في الثابت الديني والمحصلة زيادة عدد التعارضات والتناقضات في النصوص الكهنوتية مع نفسها ، ومع الواقع، والتي أصبحت بحكم القداسة والعصمة نصوصاً دينية أصلية، وما يجلبه من أسباب الشك في الدين برمته، ووضعه في غربة زمانية، أو انفصال عن الزمن يحبسه في دائرة الإرشادات ذات الطابع الرجعي.

 

الأدهى، قدر الارتداد في الماضي باستجلاب نظام سيطرة ليس روحياً فقط، لكن سياسياً أيضاً، ليعود مفهوم الملك الإله، أو المقدس بكل قوة، وإضفاء العصمة على السلوكيات السياسية وما يخلفه من نواة تدمير ذاتي للأثر الديني – المباشر – في حياة الناس، مثلما حصل مع الدين المسيحي جراء النظام البابوي الكنسي.

 

غير أنه من الإنصاف الإشارة إلى أن النظام الكهنوتي تخلل معظم الأديان، حتى تلك التي حرصت بداياتها على الإنفكاك من الكهنوتية لدرجة نبذ الطقوس في تعاليمها، كالبوذية، أكثر من ذلك ان النظام الكهنوتي حاول التسلل إلى المنظومة السنية، وتمكن فعلاً في بعض اتجاهات صوفية سنية، لكن في كل الأحوال ليس بصرامة الاعتقاد الشيعي المطبوع بالسمات الثقافية الفارسية، وليس نظاماً مغلقاً على أساس جيني عشائري، إلا إذا استثينا النظام الكهنوتي في ديانات غير إسلامية كاليهودية، والأهم أنه يقتصر على الجانب الروحي ومنفصل -في الأغلب- عن الحياة الزمنية للبشر.

 

سلسلة حلقات تنشرها  وكالة 2 ديسمبر من ملف بعنوان (السرطان الفارسي) – الحلقة الرابعة..

 

لقراءة المزيد:

  • السرطان الفارسي.. وهم التفوق الحلقة 1  
  • السرطان الفارسي.. مقاومة الإسلام الحلقة 2
  • السرطان الفارسي.. القبيلة أولا الحلقة 3

أخبار من القسم

تطورات الساعة

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية