في ذكرى إنطلاق عمليات المقاومة الوطنية... المخا أول درس جمهوري عرفته
كحجر في نهر، يندفع دون منبع، ولا يعير اهتماماً للمصب، وجدتُني في المخا، مطلع العام 2020، قادماً من تعز، شابًا تغمره الحماسة، يشتعل في داخله الرفض، لا يعرف من الجمهورية سوى نقيضها: المليشيا، وما من طريق لها سوى التضحية.
شاب يرى في نفسه ناطقاً باسم الجمهورية لمجرد أنه ينحدر من مدينة هي الأعلى في سلم التضحيات.
بهذا الحماس والاعتداد بالنفس، كان تعريفي للجمهورية يقوم على فكرة الرفض، رفض المليشيا الحوثية، وبأي ثمن، جمهورية تُختزل في "لا"، لا للكهنوت، لا للسلالة، لا للطغيان، أنا الذي لم أعرف عن الجمهورية سوى ما حفظته عن ظهر حب من كتابي المدرسي.
ثم كانت المخا، مدينة شفافة يراها كل من دخلها كما يريد، أما أنا فقد رأتني كما أحتاج، وهكذا أعادت المدينة تشكيل مفاهيمي للجمهورية وللتضحية، وللاستحقاق الوطني.
في البدء لم أرَ فيها سوى معمل لإعادة تدوير النظام السابق، الذي لم أعارضه، كما لم أؤيده، أنا الذي كنت أرى أن العبودية ليست صنيعة ديكتاتور أكثر من كونها صنعة مجتمع جاهل، وأن الطريق إلى الحرية ستتفتح على مشاريع الفوضى إن لم تنطلق من محاربة الجهل.
مر نصف عام على وجودي في المخا، لتبدأ ملامحها بالتوضح، مشاريع هنا وهناك، عجلة البناء تدور دون توقف، مبانٍ تجارية، مؤسسة دولة، مشاريع لتطبيع الحياة، تفاصيل كبيرة وصغيرة كانت كفيلة لتخبرني أن الجمهورية ليست فقط ما نرفضه، بل ما نقيمه.
جمهورية لا تعرفك بعدد ما ترفض، أو تضحي، بل بما تُشيّد، ولا تقيسك بدرجة غضبك، بل بدرجة التزامك.
قلة من تعلموا من المخا، معنى أن تكون جميلًا في تنظيمك، صادقًا في انتمائك، صارمًا في وجه الفوضى، ورقيقًا حين تُدافع عن الحق.
انتهى العام الأول لأجدني أمام جمهورية تُبنى على مؤسسات لا ترتعش أمام الفرد، وأمام جيشٍ لا يرفع البندقية ليُرهب، بل ليحرس، جنود يعرفون أن ولاءهم ليس لاسم عابر، بل لفكرةٍ باقية.
عملت في المجلس المحلي، كان طارق صالح بالنسبة لي ليس أكثر من قائد عسكري، وكان بالنسبة لجنود المقاومة ليس أقل من مفهوم، فكرة، معنى.
وجدوا في طارق معنى أن تنجو من الموت بأعجوبة لتبقى جمهوريا، أن تأتي من لحظة اغتيال لا لتبحث عن ثأر أكثر مما تبحث عن استمرار، استمرار المقاومة... وهذا أقل ما يمكن أن يُوصف به طارق صالح اليوم.
من مركزها كانت المخا مزدحمة بأشباح تطارد الفرص، في حين كانت أطرافها مسرحا لقلة قليلة يؤسسون للمعنى.
من هذه القلة، تشكلت القوات، نضجت فكرة الجيش، ونشأت المؤسسة الأمنية، بهدف إسناد السلطة المحلية لا اعتلائها، يدا للدولة لا عليها.
ودونما أوامر كانت التربية العسكرية الصارمة كفيلة بأن تعرف منتسبي المقاومة الوطنية بأن الجندية الحقة تبدأ من خدمة المؤسسة، لا من الهيمنة عليها.
جنود يمارسون مهامهم بروح الخدمة، لا بروح الصفقة.
ومع ذلك كنت أتساءل كيف لمدينة هي أشبه بمعسكر كبير، أن لا تنفجر من داخلها بين وقت وآخر، لأدرك أن نظاما نفسيا أكثر منه عسكريا كان يدير المكان، نظامًا تجده حتى في طريقة الجلوس، في التعامل، في الاحترام، في الاستعداد لليوم التالي.
بهؤلاء تحولت المخا من مغنم إلى معلم، ومن ساحة لاقتسام الغنائم، إلى ساحة لاسترداد المعنى.
ومع ذلك لا تخلو المخا من الصورة السلبية التي قدمها بها البعض بوصفها آلة صرف نقود، وهكذا رأتها أعين لا ترى إلا ما تعودت عليه، بينما هي من الداخل أعمق من مشروع طارئ، أبعد من طموحات السلطة، إنها مشروع فكرة، أن تعود الجمهورية لا عبر المفاوضات، بل عبر الانضباط.
وهكذا... أدرك الشاب الذي كنته أن أعظم "لا" هي التي تُكتب بـ"نعم"... نعم للمؤسسات، نعم للجندية المنضبطة، نعم للبناء، نعم للجمهورية كفكرة ومعنى وسلوك.
وهكذا كان لمدينة على طرف الجغرافيا، أن تقيم أولى مداميك الجمهورية بصمت، وإن قمعته شعارات من يقدمون أنفسهم متحدثين باسمها.