يبدأ الأدب بعد أن تزول أسباب الإثارة
خالد الحسيني يحاول في كتابه "صلاة البحر" التذكير بحقيقة كونه لاجئًا سابقًا مازال موضوع اللجوء والتشتت بين الخوف والأمل يلازم خياله الأدبي.
الكاتب الأكثر مبيعًا والهارب بدوره من جحيم الحرب في بلده أفغانستان عندما كان في الخامسة عشرة من العمر واللاجئ اللاحق والطبيب وسفير النوايا الحسنة لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، يهدي كتابه الأخير إلى روح الطفل السوري الغريق إيلان وبقية اللاجئين السوريين الذين تناهبت أجسادهم البحار وأسلاك الحدود الشائكة.
وكتابه الجديد الصغير بحجمه والكبير بقيمته الإنسانية والذي حمل عنوان “صلاة البحر”، يطرح سؤالًا محيّرًا هو لماذا نسي العالم الطفل الغريق إيلان الذي أطبقت صورته الشهيرة الآفاق في العام 2015 وهو ينكفئ ميتًا على رمال الشاطئ، بهذه السرعة؟
اللاجئون المنسيون
يحاول حسيني في كتابه “صلاة البحر” التذكير بحقيقة كونه لاجئًا سابقًا مازال موضوع اللجوء والتشتت بين الخوف والأمل يلازم خياله الأدبي، بواسطة تواصله مع التاريخ الدرامي لواقعة اللاجئ السوري الصغير البالغ من العمر ثلاث سنوات فقط، والتي صدمت صورته بقميصه الأحمر وسرواله الأزرق على شاطئ بودروم التركي العالم، بعد غرقه في البحر الأبيض المتوسط أثناء محاولة عائلته الوصول إلى أوروبا بواسطة زورق مطاطي صغير.
وفي لحظة خاطفة من التاريخ، أصبح إيلان الصغير رمزًا للنضال ضد سياسة اللاجئين المتشددة على مدى أسابيع. صورة صدمت العالم وجعلت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تسكب الدموع، ودفعت بزعماء اليسار الأوروبي للصراخ في البرلمانات بوجه اليمين المتطرف البشع، ثم تحولت ـ تلك الصورة ـ إلى مادّة طازجة للأخبار، حتّى أن صورة الشرطي التركي الذي انتشل جثّة الطفل في ما بعد ورفعه بين يديه، حققت أكثر من عشرة ملايين لايك ومشاهدة في مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن وعلى الرغم من ذلك كلّه، يقول حسيني في كتابه، انطفأت الإثارة فجأة وتدحرج الخبر الصادم إلى مراتب متدنية في سلّم أخبار القتل الطازجة، ونسي العالم قصة إيلان المأساوية، لتتحول قصص اللاجئين الهاربين من جحيم الحرب وموتهم المجاني غرقًا في البحار، إلى بديهة مملة بالنسبة لصانعي الأخبار، ليُقتل في السنة التي تلت موت إيلان وحدها أكثر من أربعة آلاف لاجئ معظمهم من السوريين والعراقيين.
ويعتقد حسيني أن “صلاة البحر” الذي كتبه في ظهيرة أحد الأيام، هو مثال بسيط ومكرر لتاريخ المأساة وهو يرصد قصة أب سوري مع ابنه “مروان” ينتظران على الساحل ليأخذهما المهربون إلى أوروبا، بعد أن ماتت الأم بسبب القصف العشوائي. كان الأب ما يزال يرتجف من الذكريات حيث أيّام الصيف في حمص التي كانت متسامحة ونابضة بالحياة، قبل أن تتحول إلى ساحة حرب طاحنة. “أنت تعلم بأنّه يمكنك صناعة ترعة للسباحة من حفرة أحدثتها قنبلة” الأب يحدّث ابنه. لكن النفَس القاتم الذي يطغى على الصورة هنا هو تخطيطات الرسام الأميركي دان ويليامز، الذي دعّم الكتاب الصغير بتخطيطاته المائية الأكثر قتامة واضطرابًا، ليحاول بواسطتها تجسيد الانتقال من نمط الحياة إلى نمط الحرب.
بلغة متناهية في الدقّة والحساسية والرصانة، يجسد حسيني في كتابه حالة الهشاشة والمصير المجهول والقلق بالنسبة للأب وابنه، لكنّه على الرغم من ذلك لم ينس إدامة روح الأمل في نفسيهما المحطّمتين.
خطاب الأب
في النهاية، يحاول خالد حسيني، الكاتب والإنسان، تكريم ذكرى الملايين من العائلات التي تمزقت بسبب إجبارها على مغادرة وطنها وضياعها في لجج البحار وقسوة المنافي ومواجهتها بجفاء من بعض الساسة الأوروبيين المنحرفين من أمثال وزير الداخلية الإيطالي الجديد ماتيو سالفيني وغيره من زعماء اليمين المتطرف.
إنّ “صلاة البحر” يمثل رسالة مصير من الأب لابنه الصغير، يحاول بواسطتها تجنيب صغيره المصير القاتم الذي واجهه ورغبته العارمة بإنقاذه والعبور به إلى برّ الأمان.
“قلت لك: امسك يدي. لا تخف. لا يمكن حدوث شيء أسوأ مما حدث لنا حتى الآن”.
لنا أن نتخيّل لوعة الأب المنكوب بموت زوجته توًا وتحديه المصير الأسود الذي ينتظره والعبور الخطير الذي يتحتم القيام به من أجل إنقاذ ما تبقى من عائلته الممزقة، تلك اللوعة التي يصفها حسيني بأسلوب موجع وهو ينتقل في قصته
من حمص المثالية الوادعة إلى منطقة الكارثة المشؤومة المظلمة والمغادرة بواسطة القوارب.
إنّه كتاب مصوّر قصير ومكثّف، كتبه الروائي ردًّا على سياسات اليمين المتطرف وأزمة اللاجئين الحالية، وهو كما ذكرت، على شكل خطاب موجع من الأب لابنه، عشية رحلتهم الخطرة، حين ينقل الأوّل نظره بين وجه صغيره النائم بحضنه والمعبر الخطير في الجهة المقابلة.
لقد قالت دورية بوبلتشر ويكلي عن الكتاب “إنّه خطاب مؤثر كتبه أبٌ سوري يطحنه الخوف لابنه الصغير، ومن المستحيل أن تقرأه من دون أن تتعاطف بشدّة مع هؤلاء اللاجئين ومحنتهم، لأن الكاتب هنا لم يسهب في تجسيد الكوابيس بشكل مباشر، لكنّه جعل قوّة العاطفة تتدفق بقوّة لتجسد الحبّ الأبوي الأسطوري، ناهيك عن الرسومات المبتكرة التي تناغمت مع النثر الملهم”.
يذكر أن الكاتب، الذي حققت رواياته السابقة، “عدّاء الطائرة الورقية” و”ألف شمس ساطعة” و”الجبال تردّد الصدى”، ملايين المبيعات، تبرع بريع هذا الكتاب لصالح المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، كما فعل الشيء نفسه دان ويليامز، الرسام الذي وضع التخطيطات بالألوان المائية الساحرة للكتاب، وهو رسام إنكليزي سبق وأن وضع بعض التخطيطات لرواية حسيني السابقة “ألف شمس ساطعة” بطلب من صحيفة الغارديان، كما ظهرت أعماله في مجلة ناشيونال جيوغرافيك وغيرها من المجلات الشهيرة.