لكل ثورة _في أي زمان أو مكان_ فلسفة وتحديات وإرادة  تحدد مصيرها وتضبط بوصلتها؛ لكن ثورة 14 أكتوبر شكلتها الإرادة وتغلبت على منطق المغامرة وحجم التحديات لتصبح هي العقل المدَبّر واليد الفاعلة والقوة الخفية التي صنعت مؤشرات المعركة ورسمت ملامح نصرها.

لم يكن بحوزة اليمني _آنذاك_ شيء من مستلزمات المعركة الانتحارية بالنسبة له، نظراً لبؤسه ووهن قوته، إلا أن إرادته المثالية الطامحة بطرد المحتل ونيل الاستقلال منحته الثقة والثبات، وحركت فيه دوافع الشروع بحتمية المصير الوجودي الذي يجب أن يخوض التجربة لأجله مهما كانت الفوارق شاسعة بينه وبين عدوه، فالتهمت إرادته الوطنية هواجس الخوف ووخزات اليأس، وقذفت به في صلب التحدي دون احتساب العواقب أو خشية النتائج، ليترك لنا نموذجاً خالداً لمعنى النضال والكفاح والشكيمة الفذة.

ولذا فالإرادة تمثل نقطة محورية في أدبيات العلوم العسكرية ونظريات الحروب، والقوة الكامنة التي يتم تجسيدها في الثائر والقائد والبطل والمقاتل، فحين سيطرت على وعي ثوار أكتوبر وقادتها تحولت إلى شعور عارم لدى كل اليمنيين، وأجبرتهم على المضي في اتباع مسارها وتحقيق أهدافها، فتدافعوا دون تردد، وأخلصوا دون شك، وكانت إرادتهم السلاح الفتاك الذي قارع جبروت الاستعمار وتصدى لبطشه وقهره رغم قوته وعتاده.

وعليه فإن الذكرى الحادية والستين لثورة أكتوبر لا تعد مجرد ذكرى وطنية  فحسب؛ بل مجد يمني عظيم ودرس تاريخي خالد، ومعجزة كفاحية تتجاوز معنى النضال ومستوى الشجاعة، والشكيمة القتالية الفريدة لثوارها وأحرارها، الشكيمة التي داست كل التحديات وهشمت موازين القوة، وشرعت في إطلاق شرارة التحرير ضد أعتى نظام استعماري امتهن الاستهانة والسخرية بيوم يقدم اليمني على التمني بالخلاص من الاحتلال، فما بالك بإقدامه  على مقارعته والهجوم على قواعده والتحرر من قبضته.

إن إحياء هذا اليوم الخالد واستحضار إرادته والتأمل العميق لمجرياته بعد مضي ستة عقود يعيد لأذهان اليمنيين رسم ملامح صورة اليمن الطامح، وعزيمة أبنائه، واستلهام شكل إرادة الأجداد العظماء الذين صنعوا ثورتين في عامين متتاليين، شمالاً ضد الاستبداد الكهنوتي وجنوباً ضد الاستعمار الغاشم، بولاء وإخلاص وعزم يبعث الحيرة والاندهاش، إثباتاً للتاريخ، وتحدياً للظروف وشاهداً واقعياً شامخاً أمام الطغاة والمستعمرين يؤكد أن الإرادة أكبر من التحديات والعزيمة أعظم من الخسارات، والولاء للوطن وحريته مبدد لكل خيبة وقاصم كل انكسار.

ولذا فإن الأعياد الوطنية هي البنية الأولى التي تشكل وعينا الوطني وولاءنا الجمهوري وتحفز إرادتنا وتلملم انقساماتنا وتشعل فتيل أحلامنا وغاياتنا في صنع حاضرنا ومستقبلنا، فليست تحديات اليوم أكثر قسوة من مخاطر الأمس، ولن يكون أحفاد الإمامة أكثر بأسا من الكهنة الأوئل

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية