"كنت طبيبة في اليمن".. إدانة تاريخية لنظام الإمامة في اليمن
هذا الكتاب إدانة كافية لنظام الإمامة في اليمن، دونت من خلاله الطبيبة الفرنسية كلودي فايان جزءًا من واقع اليمن المظلم تحت حكم الإمامة.
إنه لمن المهم جدًا أن تعرف تاريخك بعيون رجل غريب لم يفقد دهشته بالأشياء؛ فالرجل الغريب عن البلد لديه قدرة على التقاط التفاصيل الصغيرة، كما لو كانت عيونه كاميرا. لقد كانت فايان أول طبيبة في اليمن، ناهيك عن كونها باحثة في علم السلالات البشرية، وعملت في صنعاء لأكثر من عام.
وأنت تقرأ كتاب "كنت طبيبة في اليمن"، تتعرف على نفسك لأول مرة، فالمؤلفة رسمت صورة كاملة عن اليمني وبيئته وثقافته ونفسيته، تقول فايان: "لكي يفهم المرء بلدًا لا بد من التوغل في الوسط وجمع التفاصيل التي يستخلص منها الملامح العامة". ناهيك عن كونها تحدثت عن الوضع الصحي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي بشكل كامل.
دونت فايان لحظة قدومها إلى مدينة عدن، فقد كان البعض يحذرونها من مغبة المجيء إلى بلد يعيش التخلف ويئن تحت رحمة مزاج الإمام الذي يحكم بكل نزق.
ودونت رحلتها في الطريق من عدن إلى مدينة تعز، مرورًا بطرق جبلية وعرة، وقصص شيقة حدثت معها في تلك الطريق، وعن ليلتها الأولى في تعز، عندما شاهدت لأول مرة صورة العكفة المخيفين، وبقائها في قصر الضيافة في دار الإمام أحمد، وتحدثت عن الإمام وأسلوب حكمه، وكتبت انطباعات عن علاقاته، ودونت شواهد عن الحياة العامة في مدينة تعز، ثم انتقالها بعد ذلك إلى مدينة صنعاء حيث ستعمل هناك لأكثر من عام كطبيبة.. تتحدث عن علاقاتها مع زوجات الإمام، وعن أساليب همجية في التعامل معها، وقصص عن سبي النساء ينفطر لها القلب، والحياة العامة في صنعاء، وتحدثت عن زيارتها إلى مدينة الحديدة، وذمار، ومأرب، والسفر إلى مناخة (منطقة تبعد عن صنعاء، ولا ترضخ لحكم الإمام)، وينتهي الأمر عند مغادرتها لليمن وقد دونت انطباعاتها الصادقة عن شعب طيب يعيش في معزل عن العالم.
إن الدكتاتورية الشمولية في الحكم التي ينتهجها الإمامة في اليمن لهي نظام تاريخي متوارث، وليست وليدة اليوم، حيث لا يكاد يختلف عن نظام الإمامة الحوثية اليوم: تقول فايان عن هذا النظام: "إن الإمام شخصيًا هو الذي يقرر إذا كان معلم أحد الأقاليم النائية والبعيدة بحاجة إلى عشر محابر"، والذي يتابع أسلوب حكم الحوثيين لا يجد فرقًا، حيث إن الحوثية الإمامية تحشر نفسها في أمور السياسة العليا إلى أمور قرار الإنجاب والعقم بالنسبة للأفراد.
وأشارت، بصريح العبارة، إلى كون ذلك النظام دأب وراثي غير قابل للتغيير على طول التاريخ، فقد سألت أحد الأشخاص عن السبب الذي يجعل الإمام على هذا المنوال في الحكم فأجابها الرجل بالقول: "كان أجداد هذا الإمام يحكمون هكذا.. فإذا لم يحكم مثلهم وعلى طريقتهم، فإنه يشعر أنه سيكون أقل منهم شأنًا ومقامًا".
لقد عانى الإنسان اليمني من حكم نزق بمعنى الكلمة، فقد كان الإمامة لمجرد شعورهم بعدم الرضا على شخص معيّن يأمرون العُكفة أن يكبلوه بالسلاسل. أما إذا مرض الإمام فإن على المدينة كلها أن تنتظر.
ولقد أحاطت الإمامية نفسها بهالة من القداسة الكاذبة، ونسجت حول نفسها الأساطير الخرافية، لكي تطيل أمد بقائها على رقاب الشعب، وهذه قصة أوردتها المؤلفة في الكتاب: "الناس يطلقون على الإمام أحمد يا جناه، يؤمنون بأن له مواهب خارقة؛ فقد كان في خدمتي طباخ قضى أيام طفولته في قصر الإمام، قال لي هذا الطباخ أن الإمام يلقي على الأرض بحزمة حطب فتتحول إلى ثعابين وتتفرق، وأنه يختلي ليلًا في غرفة ويطفئ الأنوار ويجمع الجن ويصدر إليها أوامره وكانت الأصوات تتعالى من حوله. ويقال إنه بهذه الطريقة علم بوجود كنز تحرسه قوة شيطانية في بئر فنزل وهزم الشيطان، وبعد صراع رهيب ابيضّت لحيته كلها وسحب النقود".
كانت اليمن تعيش في ظلمة حالكة وفي عزلة تامة عن العالم: "إن الإنسان في اليمن لا يكاد يشعر بوجود العالم الخارجي، وهذا البلد يُعتبر شاطئ الأمان الذي تستطيع أن تتخذه ملجأ عند نشوب الحرب العالمية القادمة"، وفق ما ذكرته المؤلفة.
وفي توصيف للوضع في تلك المرحلة البائسة من تاريخ البلد، تقول كلودي فايان: "لقد شعرت أني في أرض لا زالت تعيش في عصر الحروب، وأن كل شيء فيها يعيد للأذهان القرون الوسطى المظلمة التي عرفتها أوروبا".
تحكي فايان قصصًا مؤلمة تكشف حجم الوضع الاجتماعي والإنساني الأكثر مأساوية في ظل حكم الكهنوت الإمامي، ومن ذلك تأكيدها أنها رأت امرأة في شوارع تعز مكبلة بالحديد.
الكتاب الذي ألفته د. كلودي فايان، في حدود 149 صفحة، وترجمه محسن أحمد العيني، يبعث على التساؤل: كم لبثت الطبيبة في اليمن، كيف استطاعت أن تخرج بهذا الكم الهائل من المعلومات عن اليمن التي لم يستطع أحد كتابتها. وكم يلبث أحد منا في بلده دون أن يكون قادرًا على كتابة مقالة واحدة عنه.