من بين جموع من الأدباء والصحافيين والكُتاب اليمنيين تميز الكاتب الصحافي فكري قاسم بالأسلوب الساخر والطريقة التهكمية في الكتابة، معتبراً إياها الطريقة المثلى لحمل أفكاره، وطرح رؤاه والتعبير عن رؤيته للعالم والحياة، كونها الأقدر على استيعاب أطروحاته وانتقاداته الكاشفة ومعالجاته الخاصة حول المعضلات المتكدسة في السلوك والتفكير والأنساق الثقافية المهيمنة في الوعي والثقافة التي جعلت الإنسان مجرد كتلة منقادة لهذه الأنساق دون أن يدرك خطورتها على واقعه، بل يكون هو أكثر من يدافع عنها ويصد أية محاولة لزحزحته من قيودها كالتعصب والنفاق والفساد وحب الأنا وتكريس الهيمنة من قبل فرد سواءً أكان شيخاً قبلياً أم رجلاً دينياً أم زعيمَ حزبٍ، فالتبعية العمياء تخلف بعدها قطيعاً من البشر لا يأبه بفكرة التحرر والاعتزاز بالذات وبالرأي وحرية التفكير والتعبير.

وبما أن المجتمع قابع وسط تجسيدات معقدة وكيانات مهيمنة فيصعب مخاطبته بلغة عميقة ونخبوية وأسلوب غامض ورزين، والأجدر مخاطبته بطريقة ظاهرها الخفة والسخرية وباطنها نقده بطريقة لاذعة غير مباشرة؛ تجنباً للاصطدام معه بتلقيه العنيف وحساسيته المفرطة تجاه من يشعره بسلبية واقعه وتفكيره ومظاهر الإخفاق والعبثية المسيطرة على جل سلوكه وأفعاله، لكن فكري حاول ملامسة الأغلال المعتمة المحيطة بالإنسان اليمني والواقع سياسياً واجتماعياً وثقافياً وإنسانياً.

كتاب "حَنَبات"، الصادر مؤخراً عن دار عناوين 2023، جاء في 100 صفحة من القطع المتوسط، وعنوانه يشير إلى عمق دلالته ومعناه، فالحنبة هي المأزق/ الشدة/ انسداد الأفق/ انعدام الحيلة/ الوقوع في الفخ، وكلها معانٍ مبثوثة في ثنايا القصص الست الساخرة التي احتواها هذا الكتاب، وقد عرف أحد علماء النفس السخرية: "أنها سلاح ذاتي يستخدمه الفرد للدفاع عن جبهته الداخلية ضد الخواء والجنون المطبق، إذ إن السخرية رغم الامتلاء الظاهر بالمرح والبشاشة إلا أنها تخفي خلفها أنهاراً من الدموع"، وهناك من يرى أنها سلاح الضعيف لمواجهة النفاق والفساد.

تتأرجح القصص الست الساخرة بين الواقعية والتخيلية الرمزية التي لا تختص بذات الكاتب وإنما تتعلق بالتماهي مع حنبة مجتمع/ حنبة وعي/ حنبة ثقافة لجيل متأزم بأكمله، حاولت هذه القصص الجريئة أن تقدم نموذجاً عن تأزماته وصوراً من عثراته وشواهد عن طبيعة تفكيره وانعكاسات ثقافته وتصوراته للحياة ومباهجها وإخفاقاتها ومحاولاته الحثيثة للظفر بمكاسب فردية أو جمعية تحقيقاً لأحلامه وتلبية لرغباته، لكن هناك ما يوقعه في الفخ والفشل والخيبة.

تصدرت قصة "من سرق حذاء هائل سعيد" بداية الكتاب؛ كونها أكثر ظرافة وإثارة للكاتب والقارئ أيضاً، لأنها تتعلق بشخصية مثيرة في الثراء والعطاء، وسرقة حذائه لن ينقص من كنزه مثقال ذرة، لكن القصة تكشف عن حجم التناقض بين الجاني المتأزم والضحية المتخم، وبين التقي الورع الباذل والصبي المتوهم في الانتقام، وبين من يبذل وهناك من يعترضه وينصب من نفسه دليلاً له كبهلول، وتبين الكيفية التي يتدافع المجتمع بها للحصول على أعطيات المنفِق بحيل وافتعال الأسباب للدرجة التي تبعث السأم من حجم الابتذال وانسحاق الذات وتهافتها غير المبرر في الشحذ، القصة ككل قدمت الصورة بلطافة وتصوير دقيق للمفارقة التي كان عليه الواقع آنذاك، وسلوكيات المجتمع النفاقية، رغم هشاشة جوهر القصة المتمثل بالحذاء إلا أنه شكل كابوساً للجاني الذي حمله كل أمانيه وخيالاته الجامحة وأوهامه الظنونية ويقينيات ثقافته المعتقدة بأن العثور على حذاء الرجل بمثابة المفتاح للعبور إلى سلطة المال، وهي انعكاسات لإفراز ثقافي مضمر يكشف عن مأساة التنصل في تكوين الذات وتشكيلها طوبة طوبة والغرق في مستنقع الدهشة والانبهار بنموذج ثري وأسطرته في المخيال الجمعي، تخلل القصة تدخلات من الراوي وتعليقات واستفسارات تفصح عن منظور المجتمع لمثل هذه الأمور وعجزه عن تقليدها والاحتذاء بنجاحها مكتفياً بالتهافت على الفتات مما تجود به عليها.

أما قصة "ايش بعد أي لاف يو" فقد أضمرت الهوة والقطيعة بين عالمين مختلفين، وعجز أحدهما عن الاحتكاك بالآخر، وفي حال الطموح في الاقتراب منه انتصب العجز وغياب الإمكانيات حتى وإن كانت اللغة عائقاً كما صورت ذلك القصة، لكنها تنبئ عن اندفاع اليمني وتطفله البريئ أو المتعمد تجاه ما يصادفه، وما تلهُّف طفل للفوز بفتاة أجنبية رغم فقدان الأداة إلا دليل على كبته وجفاف مشاعره وغالباً ما تهيمن هذه الإشكالية على سلوكه وتصبح دافعاً للانحراف إذا ما ظلت مسيطرة على وجوده. القصة شجية ومؤلمة في آن رغم مصداقيتها وبؤسها.

سارت الأربع القصص الأخرى "توأمة مع البودي/ العصارة / زد عدمنا البرميل / بخت المداكي" على نفس نمط التشويق والكشف عن المواقف المتأزمة التي تصادف كل إنسان ويعجز عن الفكاك منها بيسر، والرابط بينها كلها الانكسار والإحباط وانكماش الحلم وإهماله بعد محاولات غير مجدية، والشيء الأهم في سياق قراءة هذا الكتاب أن مصدر هذه الحكايات هو الواقع، والكاتب ابن بيئته والعصر الذي يعيش فيه، وهنا فإن المحيط العام الذي صدرت هذه الأحداث منه ينم عن خلل بنيوي في تكوين هذا المحيط سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، هذا الخلل تسبب في خلق الكثير من المآسي والعذابات التي ترسخت في واقع هذا المجتمع وحالت دون خروجه من عنق الزجاجة واللحاق بحالة من الاستقرار الإنساني والمادي، كأنه عصارة يطحن ذاته ويقطنه سرب من الفئران البائسين، وحظه متعثر كمحبوب، لم يستطع التوأمة مع أشقائه في المنطقة وبرميله النفطي معطل، ولم يفلح فيه إلا هائل سعيد.

على كل، فإن قراءة الكتاب سيميائياً سيفصح عن دلالات وتأويلات تفضح بؤس اللحظة التي يعيشها اليمن، وما حنبات الكاتب إلا نزر يسير من حنبات وطن غارق في محيط من الحنبات، فلا تقرأوا الكتاب باستخفاف واسترخاء، ففيه إيحاءات عميقة ربما لم تكن لتخطر في بال الكاتب أيضاً، إلا أن القارئ العميق بإمكانه تتبع خيوطها وتحديد ملامح الصورة البائسة الملازمة لهذا الحيز الجغرافي الذي يشبه الفردوس لكنه ينتمي للجحيم بكل معانيه، نأمل أن لا يتوقف الكاتب عند هذا الحد ويقدم قصصاً ساخرة ولا يكتفي بسرد مواقفه فحسب بل يهتم بكتابة قصص ساخرة علّها تحرك ساكناً في وعي القارئ وتبصّره بسلبيات ثقافته وتفكيره.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية