الدين، أي دين، ليس فقط "الكتاب المقدس"، بل كل الظواهر والمظاهر والاجتهادات والإضافات التاريخية، والبدع التراثية الإيجابية والسلبية الطارئة عليه، والتي قد تصبح بالتقادم جزءاً منه، وفاعلة ومؤثرة ربما أكثر من نصوصه الأصلية المقدسة.

بل قد تكون هذه الإضافات والبدع الطارئة متعارضة بشكل صارخ ومباشر مع النصوص الأصلية، كـ"الكنيسة" في الغرب، بالنسبة للمسيحية التي تنص أناجيلها على فصل الدين عن الدولة، وأن "ما لله لله، وما لقيصر لقيصر".

في الإسلام، هناك أشياء كثيرة من هذا القبيل. أكثرها قبحاً وبجاحة "الكهنوت"، وما يرتبط به من نظريات سياسية سلالية. لا وجود في "القرآن الكريم" لأي إشارة لنظام سياسي إسلامي محدد، فضلاً عن جعله حقاً حصرياً لسلالة معينة.!

في اليهودية تقررت "السلالية" في نصوص "الكتاب المقدس" نفسه. "التوراة وبقية أسفار العهد القديم". "اليهودية" أصلاً ديانة قبيلة وسلالة واحدة "بني إسرائيل"، ومن الطبيعي أن يكون أنبياؤها وملوكها منها.

الإسلام، بالمقارنة، ديانة عالمية، ومن الطبيعي أن نصوصه المقدسة -كخطاب موجه للناس جميعاً- خلت تماماً من أي إشارة إلى خصوصية عنصرية لسلالة أو قبيلة معينة، وعلى العكس، وكما يجب، أكّدت على القيمة الإنسانية العامة.

ومع ذلك، بات حق قريش وبني هاشم بالسلطة كما لو أنه حقاً إلهياً حصرياً متفقاً عليه، بدرجات متفاوتة لدى أكبر الطوائف الإسلامية. الخلاف بين السنة والشيعة يدور فقط حول معايير ومواصفات هذا القرشي. أما النظام السلالي نفسه، فمبدأ متفق عليه.!!

هكذا تمّ تبني "الكهنوت" و"السلالية" في الإسلام. من خارج "الكتاب المقدس" "القرآن الكريم". كـ"بدعة" تراثية تاريخية بحتة تخلقت بالتدريج، واكتملت في نظريتي "الإمامة" و"الخلافة" في القرن الثالث والرابع للهجرة.

لم تكن هذه الفكرة تدور حتى في أذهان المسلمين الأوائل "الصحابة" في العهد النبوي. ولهذا اختلفت تلك الصفوة الإسلامية الأولى حول من يتولى قيادة الجماعة بعد وفاة النبي، بين مرشح الأنصار ومرشح المهاجرين..

لم يجرؤ أبو بكر الصديق أو عمر الفاروق يومها أن يزعما أن هناك حقاً إلهياً لقريش في هذه القيادة، بل تفاوضا مع الأنصار على أساس دنيوي سياسي خالص، من هو الأنسب بالنسبة للعرب؟ ثم تقاسم السلطة: "منا الأمراء، ومنكم الوزراء".

اليوم، هناك من يتحدث عن "الولاية" وحق بني هاشم، بثقة، كما لو أن "القرآن الكريم" أنزل عليه، أو أن الله يتواصل معه بشكل مباشر.. وهناك الكثير من الجهلة والعوام والمغرر بهم.. يصدقونه.!

هذه "البدعة" التي تعصف اليوم باليمن والمنطقة، كانت كذلك دائماً، في كل زمان ومكان ودين.. تنعكس بشكل كارثي بالغ الفداحة على كافة جوانب الحياة، وتكبل الدول والشعوب. وتحول دون أي محاولة واعدة للإصلاح والتغيير والنهضة.

كان هذا هو حال الغرب المسيحي طوال العصور الوسطى المظلمة، إلى أن ظهرت هناك، مع مطلع القرن (16م)، كوكبةٌ من الثوار الكبار، احتجوا على كل البدع التراثية السيئة، وعملوا على تخليص المسيحية منها، وإعادتها إلى الأصل الكامن في النصوص المقدسة.

على رأس هؤلاء: "مارتن لوثر" "1483 : 1546م" مؤسس حركة الإصلاح الديني البروتستانتي التي دعت إلى إلغاء "صكوك الغفران"، و"الرهبة" والمناصب الكنسية، وشفاعة القديسين، ومركزية الكنيسة، وسلطة البابا، وكسر احتكار الكنيسة لفهم وتفسير الكتاب المقدس.

الكنيسة الكاثوليكية من جهتها، عالجت هذه الثورة ضدها بإصلاحات ذاتية واسعة، وفي المحصلة فإن ما أنتجته حركة الإصلاح الواسعة هذه. ليس العودة إلى زمن المسيح، بل تحكيم العقل، وكسر الكهنوت، والانفتاح على العصر والحياة والمستقبل.

قد يبدو أن الشيخ النجدي "محمد بن عبد الوهاب" "1703 : 1791م"، بدعوته إلى نبذ "البدع" والعودة إلى الأصول، هو "لوثر" العالم الإسلامي، غير الرجل لم يعد إلى "القرآن الكريم" بقدر ما علق في "الحديث النبوي"، وفكر ابن تيمية في القرن الثامن للهجرة.!

كما أن العودة إلى النصوص المقدسة ليست حلاً بحد ذاتها، إن لم تقترن بكبح الكهنوت وتحرير العقل والإنسان.. وإلا فهي حركة رجعية، وهذا ما جعل الوهابية، كغيرها من الجماعات الأصولية في العالم الإسلامي، مشكلة أكثر نكاية من البدع التي تزعم أنها ثارت عليها.!

في كل حال ظهر في العالم الإسلامي قديماً وحديثاً مصلحون ومفكرون كبار، لكن عموماً لم يحظَ هذا العالم حتى اليوم بحركة إصلاح واسعة شاملة، مماثلة، بنفس القوة والتأثير. تنهي الاستبداد والكهنوت وتعيد التوازن الديني الدنيوي إلى طبيعته.

ومن هنا تبرز ضرورة الخيار المدني والمرجعية العلمانية، كمخرج حتمي مصيري وحيد للخلاص من أغلال الاستبداد السياسي والديني، والعنصرية السلالية، وبما يضع حداً لدوامة الصراع الطائفي، والضياع الكهنوتي السرمدي في العالم الإسلامي.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية