الجيل الذي لم يفهم الخطر
أخفق المحللون السياسيون والمختصون الاجتماعيون والباحثون النفسانيون والأنثروبولوجيون والمهتمون بحقوق الإنسان وقضايا الحروب والنزاعات الداخلية، في إدراك الزاوية المناسبة لتقييم الصراع في اليمن، وفهم تعقيداته، ومعرفة أسباب بقائه وطول أمده، وذلك لانشغالهم بالنظر للأمر من السطح وغض الطرف عن اتباع دراسات تقييمية تنجزها مراكز أبحاث متخصصة في التركيبات الاجتماعية والإنسانية حيث التفاصيل الدقيقة والنتائج الميدانية التي تنظر لبيئة الصراع بتفكيك بنيتها وتشكيلاتها، وكم تشكل فئة الشباب فيها؟ وأثر هذه الفئة على معطيات الصراع، ومدى استغلالها من قِبل أطراف النزاع، وإلى أي مدى يبتلعها الخطر ويتم اتخاذها كمخزون بشري لتعزيز أي نقص في ساحة الحرب؟
في اليمن، يمثل جيل الشباب ما نسبته 60 في المئة من إجمالي عدد السكان، وهذا التصنيف يعد في الدول المستقرة أمراً إيجابياً للغاية وحظاً سعيداً جداً، حيث يُبنى المستقبل على أكتافهم وتنهض المجتمعات عبر استغلال طاقاتهم؛ لكن في اليمن يبدو الوضع محزناً ومخيفاً، وربما يشكل أكثر الأسباب المضمرة في إطالة أمد الحرب دون أن تكترث الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان أو حتى دوائر صنع القرار السياسي الإقليمي والمحلي في اعتبار هذا الموضوع جزءاً لا يتجزأ من قضية اليمن وطرق ابتكار حلول لها أو التعامل معها.
ما أعنيه هنا هو الجيل الذي يتراوح عمره ما بين (10/25)، حيث الخطر يحاصره من كل جهة، دون أن يدرك أنه بين براثنه، بينما ينساق لا إرادياً للانغماس في مستنقع الواقع الذي فرض عليه مسارات يسلكها دون وعي أو ثقافة أو فهم أو تخييره بين القبول أو الرفض كمصير إجباري لا مفر من جحيمه ولا إمكانية في الفرار منه.. هذا الجيل الذي وجد نفسه فجأة بلا وطن ولا تعليم وبلا أمن وبلا استقرار، حيث الفوضى والاقتتال والشعارات الطائفية والسياسية المتناقضة، فغرق في الشتات والتيه والبؤس وفقدان التمييز بين ما هو ضار وما هو نافع؛ إذ إنه لم يبلغ مرحلة التحصين ومقاومة منزلقات الخطر والنأي عن مدارب الضياع، ولكون هذا الجيل يعيش حالة من الفراغ النفسي والاجتماعي، فكان صيداً ثميناً لذئاب الحرب الذين يتلهفون لامتلاك جيل أعمى يسهل خداعه وسلخ تفكيره وجرف وجوده بعيداً عن العقلانية والمسار السوي للحياة، لشحنه طائفياً وتفخيخ سلوكه باللحاق بركب ما يسمى بالجهاد وقتال الدواعش الذين ضحل إيمانهم وأهملوا حب آل البيت، وتقديس رموزهم والموت في سبيل نصرتهم كجزء من العقيدة والإيمان.
هكذا حرصت الحوثية على تدمير بنية التعليم في مناطق سيطرتها، ونسف مقوماتها عبر تغيير المناهج وإجبار المعلمين على الدوام بدون رواتب، وتحويل المدارس والجامعات إلى مراكز تعبئة وتثقيف طائفي ومصدر للتحشيد والتجنيد ورفد الجبهات بأعداد هائلة من هذا الجيل/ الضحية الذي افتقد لأي ملامح النجاة والإنقاذ من هذا الجحيم؛ فكان اندفاعه هناك كارثياً وتحمسه انتحارياً لدرجة لا تصدق، فهو لم يتذوق معنى الوطنية ودولة النظام والقانون أو تتجذر مفاهيم الجمهورية والحرية والقيم، كما لو أنه خُلق أسيراً وعبداً مطيعاً لمشروع السلالة ووهم الخرافة والولاية.
وفي الجانب الآخر من مأساة هذا الجيل في المناطق المحررة، لا يبشر وضعهم بسلامة حالهم واستقامة حاضرهم ومستقبلهم، لأن للضياع عدة أوجه وللبؤس طرقاً شتى، في ظل تردي الوضع السياسي والأمني وهشاشة مؤسسات التعليم العاجزة عن تأدية دورها بشكل متقن وسليم يضمن جودة هذا الجيل وجودة تكوينه الثقافي والمعرفي وامتلاكه لوعي وملكة تفكير تمكنه من فهم واقعه واستيعاب الخطر المحدق به؛ لكن للأسف يستحوذ الاستهتار واللا مبالاة على سلوكيات هذا الجيل هنا، فأدمن نيل مكاسبه التعليمية بالطرق المختصرة كالغش والرشوة واتخاذ منطق الحصول على كل احتياجاته بالجاهز، حتى وإن أكمل تعليمه المدرسي والجامعي، إلا أنه مفرغ الوعي سطحي الثقافة ضحل المعرفة متدني الأخلاق ككومة غباء، يفتقر للجدية والمعارف، مجرد بركان من الطيش والحماقة، بلا انتماء وطني ولا مسؤولية اجتماعية ولا سلوك مطمئن، مدمن "للشِلَلِية" والمضغ المفرط للقات والسهر بعيداً عن الأسرة للدرجة التي عجزت الأسرة عن التحكم في تصرفاته وتوجيه مساره، وقد يكون كلامي هذا مبالغاً فيه لكنه حقيقة لها وجود كبير في بنية جيل الشباب.
وبشكل عام، فقد أوردت كثير من التقارير الدولية المعنية بهذا الجيل في اليمن أن هناك عزوفاً كبيراً عن الالتحاق بالتعليم، وأن صفة الأمية التعليمية تلاصق من تعلم، نظراً لما يمر به البلد من وضع مأساوي تعثرت الحلول الملائمة لإخراجه منه؛ لتعثر شبابه وانزلاقهم في دوامة الحرب وركوبهم موجة الضياع المتفشية هنا وهناك وانحدارهم في أروقة المتاهة التي يعاني منها اليمنيون ككل.
وعلى ضوء ما سبق، فإن الكارثة المستقبلية التي لم ندرك فداحتها بعدُ إزاء صراعنا الحاضر، أن مستقبلنا سيكون متخماً بجيل متأزم ومتشرنق وبائس منهك الطاقة ومستنفد الجهد وفاقد الأهلية والصلاح، وسيكون عالة وحجر عثرة في المستقبل ستعجز الدولة والمجتمع عن احتواء هذه القنبلة الموقوتة وتفكيكها بيسر وإبعادها عن منطقة الخطر.
ومن اللازم فعلياً التفكير بجدية في هذا الشأن من قِبل المجتمع والدولة، وبذل كل ما بالوسع لانتشال هذا الجيل وإنقاذه وتدارك المسألة قبل أن تصبح كارثة محققة، كما يجب على المجتمع الدولي تحمل المسؤولية إزاء تخاذله وإهماله وترك هذا الجيل ضحية للحرب دون أن يدعم بما من شأنه تخفيف المعاناة وإجبار تجار الحروب وقادة الشرور على الابتعاد عن الزج بهذا الجيل في مشاريعهم التدميرية السياسية والدينية والطائفية.