الدكتور صادق القاضي يكتب لـ "2 ديسمبر ": هل الإسلام دين سياسي؟!
ما هو مؤكد وواضح حول هذا السؤال الأكثر تقليدية وحساسية وخطورة دينية وسياسية.. أن الإجابة عنه تتوقف على نوع الجانب السياسي الذي نتحدث عنه، باعتبار القضية لها جانبان:
• الجانب الأول: يتعلق بضرورة وجود دولة، والغرض من وجودها، وواجباتها والتزاماتها، وأخلاقياتها وقيمها في أداء وممارسة السلطة.
• الجانب الثاني: يتعلق بنوعية النظام السياسي للدولة، وطريقة تداول السلطة.
الجانب الأول هو الأهم في حياة المجتمعات والشعوب بشكل عام، لأنه يتعلق بغاية السياسة، والهدف من وجود الدولة، وعلى هذا الجانب الإسلام دين سياسي بامتياز؛ فهو ينص على وجوب إقامة العدل ورفع الظلم، وحفظ الحقوق والدماء والأعراض، فضلًا عن وجود أولي الأمر، وضرورة طاعتهم وأشياء لا يمكن العمل بها دون وجود سلطة أو دولة مثل: الجهاد ودفع الزكاة، وتوزيع الصدقات والغنائم، وأحكام العهود والمواثيق..
الجانب الآخر، المتعلق بشكل النظام السياسي، وطريقة تداول السلطة، هو بالمناسبة العمود الفقري للسياسة، وفي علاقة الإسلام بهذا الجانب: فقد خلت النصوص التأسيسية للإسلام: القرآن الكريم والسنة النبوية.. خلت تمامًا من أي إشارة إلى شكل نظام سياسي محدد، أو طريقة معينة لتداول السلطة، يعبّران عن الإسلام بالضرورة.
بمعنى أننا هنا أمام دين خالٍ من السياسة، في أصوله ومرجعياته ونصوصه، وكما نعرف اليوم، فشكل النظام وتداول السلطة مسائل نسبية زمنية، وقد أحسن الإسلام بتركها مفتوحة على المتغيرات التاريخية.
بيد أن هذه الفضيلة الإسلامية الرائعة تسببت على الصعيد التاريخي بالكثير من الإشكالات والأزمات والصراعات المحمومة بين القوى الإسلامية على السلطة، بداية بالصراع بين المهاجرين والأنصار.
كان الإسلام، منذ البدء، قد دعا وعمل على تكوين كيان سياسي كبير، له سلطة، وكانت مفردة "الأمر" هي المصطلح السياسي العربي التقليدي قبل الإسلام وبعده في التعبير عن السلطة، وعليه كان "الأمير" هو الصفة الرسمية لمن يقف على رأس السلطة.
ومع أن النبي محمد، ومنذ هجرته الشريفة إلى المدينة، كان يقف على رأس السلطة في هذا الكيان السياسي، لكنه لم يحمل ولم يقبل بتاتًا أن تُطلق عليه صفة سياسية رسمية (أمير أو ملك أو سيد أو شريف أو غيرها)، لأنه في الواقع كان أكبر مما تحمله هذه المصطلحات السياسية التقليدية.
كما أن التجربة النبوية التي نصت على كيفية أداء السلطة، وقدمت نماذج لها، لم تنص مطلقًا على من يتولى السلطة وكيف يتم تداولها. الشورى في الآية (وأمرهم شورى بينهم) لا تتعلق بمن يُصدر القرار، بل بكيفية صدور القرار، وهي بهذا المعنى كانت حاصلة قبل الإسلام وبعده، وإن حاول بعض الفقهاء في القرن الرابع وما بعده، أدلجتها كنظرية سياسية.
والحاصل أن وفاة الرسول (ص) تركت فراغًا سياسيًا كبيرًا مبهمًا في السلطة، وبدأ السؤال حول من يخلفه في إدارة "الأمر"، لم تكن هناك محددات مسبقة، ومن وجهة نظر الأنصار كان "الأمر" من حقهم لأسباب تتعلق بأدوارهم العسكرية والسياسية التي قاموا بها في تكون هذا الكيان السياسي الكبير.
لم ينكر أحد من المهاجرين حينها استحقاق الأنصار لهذا "الأمر"؛ بل أكده أبو بكر الصديق في خطبته في "السقيفة"، ووضح أن المشكلة ليست في من يستحق هذا الأمر؛ بل في من تقبل القبائل العربية أن تطيعه وتقبل سلطته، وهي مسألة عملية خالصة.
من وجهة نظر أبي بكر وعمر، فإن قريشًا من هذه الزاوية هي الأولى بالأمر. وأيًّا كان الأمر، فقد فرضت قريش وجهة نظرها، وبهذا صار "الأمر في قريش"، كقاعدة صارمة التزمها "الخلفاء" الأربعة، خاصة عمر بن الخطاب الذي أوصى عند احتضاره لستة كلهم من قريش، جعل أمر الخلافة شورى بينهم.
لكن كيف يتم تداول السلطة حتى داخل قريش، ظل سؤالًا مفتوحًا. تجارب الخلفاء الراشدين، لم تملأ هذا الجانب عمليًا أو نظريًا، بمؤسسة أو نظرية اجتهادية محددة، فكلّ منهم صعد إلى السلطة، كما نعلم، بطريقة مختلفة، وحكم كأمير يمتلك سلطة على جماعة لا كحاكم يقف على رأس مؤسسة دولة.
"معاوية بن أبي سفيان" هو أول حاكم عربي مسلم، يتبنى، عمليًا، نظامًا سياسيًا محددًا لدولة يمكن وصفها بهذه الصفة المؤسسية، وهو النظام الملكي الوراثي، وهو عمومًا النظام الأكثر شيوعًا في العالم من قبل ومن بعد وعلى امتداد الجغرافيا والتاريخ.
معاوية، رجل دولة وحاكم دنيوي، ورغم قيامه بمدّ صفة "الخلافة" على نفسه وعلى هذا النظام الدنيوي المعروف والمألوف الذي تبناه؛ استثمارًا للصبغة الدينية للخلافة الراشدة من قبله، إلا أنه لم يزعم أن هذا النظام ديني أو يمثل الإسلام بالضرورة.
وهكذا ظلت مسألة نوع النظام السياسي في الإسلام شاغرة من نظرية سياسية، وهي شاغرة بطبيعتها، كما أسلفنا، ومع ذلك تبلورت مع الزمن فِرق وإسلامات سياسية لها نظريات متضاربة حول هذه المسألة.
الأنصار والمهاجرون، كانا بمثابة حزبين سياسيين، لا كطائفتين دينيتين؛ إذ تشترط الطائفة عقيدة محددة وتصورًا خاصًا في السياسة، وهذه الأشياء تشكلت لأول مرة لدى "الخوارج"؛ فهم أول فرقة إسلامية ذات إيديولوجية منظمة.
تشكلت هذه الفرقة مبكرًا في أواخر عهد الخليفة عثمان، ثم نضجت على حرارة الصراع مع الخليفة علي؛ كون أغلب الخوارج كانوا من القراء وحفظة القرآن، يفسر تمردهم على فكرة الأئمة من قريش، غير الموجودة في القرآن، ولا سند لها في الدين بأي شكل أو درجة.
كما أن كونهم كانوا في الأغلب من البدو "الأعراب" يفسر كونهم كانوا لا يحملون مشروع دولة، ولا يؤمنون أصلًا بأهمية السلطة، ولا يرون ضرورة للحاكم إلا في وقت الحرب. وقد اشتراطوا أن يكون "الأمير" من عموم المسلمين، أفضلهم وأتقاهم، يتم اختياره من قِبل الناس، ومحاسبته على كل صغيرة وكبيرة.
هكذا كان يفعل العرب قبل الإسلام؛ لا يقبلون بالدولة، ولا يحتكمون لسلطة إلا مؤقتًا، في حال حدوث نزاع بينهم، والأمير غير محصن من المساءلة، ولا حاجة له في وقت السلم.
لاحقاً، ظهرت الطائفة الشيعية، ومع أن بعضهم يرى أن أول جماعة حول علي بن أبي طالب، تشكلت في أواخر عهد النبي، إلا أن هذه الجماعة تشكلت بالتدريج، ولم تبدأ "نظرية الإمامة" بالتبلور كنظرية أيديولوجية سياسية، إلا بعد مقتل الحسين في العصر الأموي.
أهل السنة، بدورها، فرقة تشكلت بالتدريج، ولم يصبح لها نظرية سياسية مكتملة حول "الخلافة" إلا في القرن الرابع للهجرة، وأول من وضع نظرية في الخلافة هو "أبو بكر الأشعري" (ت: ٣٢٤ هـ). وتبلورت هذه النظرية ردًا على نظرية "الإمامة" عند الشيعة.
تشكلت لاحقًا، وما زالت تتشكل فرق وجماعات دينية سياسية، لها نظريات متقاربة أو متباعدة حول شكل النظام السياسي للإسلام، وكلها بطبيعة الحال نظريات سياسية لا تستند على أي أصل في النصوص التأسيسية الإسلامية: القرآن والسنة والسيرة النبوية.
نعم، حاول بعض أهل السنة، وبشكل خاص الشيعة، اختلاق نصوص وتأويلات تدعم نظرياتهم السياسية، لكنها في واقع الحال، مجرد نظريات تاريخية نسبية، تشكلت بالتدريج في خضم الصراعات العسكرية والسياسية والفقهية والفكرية خلال القرون الأولى من تاريخ الإسلام.
صفوة القول؛ إن ما يهم الإسلام في علاقته بالسياسة هو الأداء والغاية: إقامة العدل في الأرض، بغض النظر عن نوع الحاكم أو شكل النظام السياسي الذي تركه مفتوحًا على المتغيرات الزمكانية، ولا أنسب في هذا السياق من الاستشهاد بقول الإمام "علي بن أبي طالب": "لا بد للناس من أمير، بر أو فاجر، يضم الشعث ويجمع الأمر، ويقسم الفيء ويجاهد العدو..". لنلاحظ هنا أن علي بن أبي طالب، شدد بقوة على ضرورة وجود أمير للمسلمين، وعلى واجباته في السلطة، لكنه لم يضع أي محددات أو شروط أو مواصفات لهذا الأمير، الذي لا يهم بالنسبة له حتى أن يكون برًا أو فاجرًا.