الدكتور صادق القاضي يكتب لـ " 2 ديسمبر " : "البيت الإبراهيمي" كمحاولة إماراتية طموحة لمستقبل مختلف
من الطبيعي أن يثير قيام دولة "الإمارات العربية المتحدة" بافتتاح "البيت الإبراهيمي" الذي ضم كنيسة ومسجدًا وكنيسًا يهودياً، ضجة واسعة في العالم العربي والإسلامي. تتصدرها على الجانب السلبي، كما هو متوقع، قيادات وأتباع جماعات الإسلام السياسي.
هذه المبادرة خطوة ريادية نوعية في سبيل السلام والانفتاح والحوار والتعايش بين أتباع الأديان المختلفة، بينما هذه الكيانات والكائنات والأوساط المعترضة قائمة في أسسها وبنيتها الأيديولوجية، ووسائلها السياسية على الكراهية والعداء الديني والطائفي. هذه المبادرة بالنسبة لها تهديد وجودي لكينونتها ومستقبلها السياسي.
في المقابل، حظيت هذه المبادرة الطموحة بتأييد واسع في الأوساط المدنية والثقافية والفكرية والأكاديمية.. وفي خضم هذا الاحتفاء الإيجابي، قدم بعضهم انتقادات موضوعية معقولة من باب أنه كان في الإمكان أبدع مما كان.
اقترح بعضهم أنه كان يجب أولاً إنشاء "البيت الإسلامي" للحوار والتعايش بين المذاهب والطوائف الإسلامية، أبرزها السنة والشيعة اللتين ما يزال الصراع العدمي العبثي القديم الحديث المنهك بينهما يعصف بالمنطقة؛ بل أكثر من أي وقت مضى.
هذا المطلب شديد الشمولية والأولوية والجدوى.. وبجانب دعوات العلماء والمفكرين الكبار لتجاوز السياقات التاريخية المتقادمة لهذا الصراع، سبق وأن قامت بعض القيادات الخليجية والعربية بخطوات في مضماره، وتعثرت لأسباب سياسية مفهومة، وهو عموماً لا يتعارض بحال مع مطلب الحوار والتعايش على مستوى الأديان.
من جهة أخرى، يرى بعضهم من زاوية الاسم "البيت الإبراهيمي"، أن المبادرة مقتصرة نظرياً على الأديان الإبراهيمية، وعملياً على بعضها؛ إذ لم يضم هذا "البيت" معبداً للبهائية، التي هي دين خرج من نفس المشكاة الإبراهيمية.
على مستوى آخر، اقترح بعضهم أن يضم هذا "البيت الديني" معبداً للهندوسية، وآخر للبوذية وغيرها من الديانات، خاصةً تلك الديانات التي يتواجد أتباعها في دولة الإمارات باعتبارها دولة كوزموبوليتية حديثة.
في كل حال، نتحدث هنا عن مبادرة للحوار بين ثلاثة أديان كانت القاعدة في علاقاتها التاريخية ببعضها- طوال عشرات القرون الماضية- هي الصراع والعداء الذي يفوق في نوعه ودرجته ما نجده بين أتباع أي أديان أخرى، على امتداد تاريخ وجغرافيا العالم.
بمعنى؛ أن المبادرة للحوار والتعايش بين أتباع هذه الأديان الثلاثة الأكثر خصومة، لا يمكن إلا أن تكون منفتحة بشكل عفوي على إمكانية الحوار والتعايش بمعناه العميق الواسع الأسهل بين العناصر الدينية على مختلف المستويات العقائدية: جماعات وفرق ومذاهب وطوائف ومِلل ونِحل وعشائر دينية.. في مختلف أرجاء العالم.
هذا نظرياً، بينما في الواقع معظم شعوب العالم تجاوزت اليوم خلافاتها الدينية والطائفية؛ فإذا كان المستهدف مبدئياً بهذه الدعوة كافة الأديان والمذاهب في العالم، فالمستهدف الأول وربما الوحيد بها هي الشعوب العربية والإسلامية.
علينا الاعتراف بمرارة بهذه الحقيقة؛ العالم العربي والإسلامي هو الأكثر حاجة لأرضية عصرية حضارية مشتركة للحوار والتعايش، داخلياً وخارجياً، وعلى كافة الجوانب والمستويات.
ما يزال هذا العالم، في جزء كبير منه، عالقاً في نزعاته ونزاعاته القرسطية، وبحاجة ماسة، على الأقل لتوقف الأنظمة والتنظيمات السياسية عن تغذية هذه النزعات والنزاعات التي تعمل على تأبيد حالته الانحطاطية المزمنة.
المبادرة الإماراتية، والدعوات والمبادرات الأخرى ذات الصلة بالحوار والتعايش الطائفي والديني، تهدف- أبعد من ذلك- إلى الخروج بهذا العالم من دوامة التصورات والصراعات العقائدية والتخندقات الطائفية.. وتمكينه من موطء قدم لائق في مضمار الحياة والحضارة المعاصرة.
بيد أن التحديات كبيرة والعوائق أكبر، لا حاجة لذكرها، المبادرة الإماراتية مجرد محاولة في هذا الاتجاه، وسنظل بحاجة إلى مبادرات وتحولات وإصلاحات عميقة شاملة، تنطلق بداية من الجانب الديني، في إطار مشروع متكامل للنهضة التي لا يمكن أن تبدأ إلا بالانفتاح على الآخر، والحوار معه، والتعايش والتعاون بين الشعوب والأمم والثقافات والحضارات المختلفة.