ارتبط تاريخُ الإمامة الهادوية في اليمن بالحرب والدم منذ مجيئ إبراهيم بن موسى العلوي، الملقب بالجزار، وهو داعية ابن طباطبا الخارج على دولة الخلافة العباسية سنة 199هـ عقب موت الخليفة هارون الرشيد، والذي وفد ــ الجزار ــ إلى اليمن سنة 200هـ، ويُقال سنة 201هـ، ومنذ ذلك التاريخي وحتى اللحظة هذه لم يتوقف سيف الإمامة عن الدم لحظة واحدة، حتى ليبدو أن الإمامة قرينة الحرب، والحرب قرينة الإمامة، في متلازمة تاريخية لا ينفكان عن بعضهما. وتابعوا معي: 
 
خلال قدوم الجزار إلى اليمن بدأت أعماله الوحشية ضد اليمنيين، مستغلاً مكانة أخيه علي الرضا عند المأمون الذي قربه وعيّنه وليًا للعهد، كما قرب العلويين بشكل عام من أجل مهادنتهم ومصالحتهم وتأمينًا لشرورهم، عقب انقلابهم عليه، فأعمل الجزّارُ حدَّ سيفه بين اليمنيين، متحالفًا مع بقايا "الأبناء" من الفرس الذين استعان بهم لقتل اليمنيين، حتى انبرى له الفارس اليماني أحمد بن يزيد القشيبي. انظر: اليمن الإنسان والحضارة، الشماحي، 104.
 
وأحمد بن يزيد القشيبي شاعرٌ وفارسٌ وقَيلٌ من أقيال عصره، كان معتدًّا بيمنيته، مُفاخرًا بقحطانيته، انتفض وجماعتُه ضد طغيان إبراهيم الجزار، الذي عاد إلى أدراجه من حيث أتى، بعد معركة فاصلة في منطقة "جدر" خارج صنعاء، سنة 2001هـ، في جيشٍ أغلبه من بني عقيل، من خولان في صعدة، بقيادة والي المأمون على اليمن حمدويه بن علي بن عيسى، والذي عزله المأمون، وعين بدلاً عنه عيسى بن يزيد الجلودي، وأمره أن يرسل حمدويه مخفورًا إلى بغداد. انظر: اليمن في التاريخ الإسلامي الباكر، د. عبدالمحسن المدعج، ترجمة: د. قاسم عبده قاسم، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، ط:1، 2009م، 245.
 
وفيه قال الهمداني: "فوثب به أحمد بن يزيد، وكان لسانًا، فألّب عليه أهل اليمن، وقلبَ عليه البلد، وقام هو وكثير من اليمانية مع عبدالله بن محمد الأحوال بن ماهان، في سنة إحدى ومئتين، فخرج إبراهيم بن موسى طريدًا..". الإكليل، أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني، تحقيق: محمد بن علي الأكوع الحوالي، مطابع السنة المحمدية، القاهرة، 1966م، 132/2. وانظر أيضاً: الأدب والثقافة في اليمن عبر العصور، محمد سعيد جرادة، دار الفارابي، بيروت، ط:1، 1977م، 87. 
 
وتجدر الإشارة هنا إلى أخي إبراهيم بن موسى الجزار، وهو زيد بن موسى، الملقب بالنار، وكلاهما من أبناء جعفر الصادق، خرج زيد على المأمون في البصرة بالعراق، فأحرق دورها وبيوتها وأهلها، وقتل منها الكثير، فسمي بزيد النار، لكثرة ما أشعل من النيران التي دمرت منازل ومتاجر أهل البصرة آنذاك. وهذا في الوقت الذي جاء فيه إبراهيم إلى اليمن، وقتل من جنود بني العباس ومن اليمنيين خمسة عشر ألفا. وهكذا نرى وحشية وإرهاب هذه الجماعة التي تنتسب لآل البيت، ثم تمارس أبشع الجرائم الإنسانية عبر التاريخ.
 
وبمغادرة الجزار أرض اليمن مهزوماً كسيراً ينتهي الفصل الأول من فصول الإمامة، ويطوى ملفها لأكثر من 80 عاماً، استقرت فيه اليمن، ولم تكد تعرف الحروب، حتى جاء الطاغية يحيى حسين الرسي، المؤسس الأول للكيان الإمامي في اليمن، ومنذ العام 284م، وحتى اليوم واليمن من حرب إلى حرب، بفعل هذا الكاهن وسلالته الذين توارثوا الفتنة جيلاً عن جيل، إذا ما استثنينا فترة بسيطة جداً من الهدوء النسبي هي فترة ما بعد نجاح ثورة 26 سبتمبر 1962م التي حقنت أول ما حقنت دماء الهاشميين أنفسهم. 
 
كانت مدة بقاء الرسي في اليمن أربعة عشر عاماً، فيما بين 284 إلى 298هـ، وهي السنة التي هلك فيها، وخلال هذه المدة يذكر مجدالدين المؤيدي ــ وهو أحد كرادلة هذه السلالة، وإمامهم الخفي ــ أن له مع القرامطة اليمنيين، أتباع علي بن الفضل وحدهم "له مع القرامطة الخارجين عن الإِسْلام نيف وثمانون وقعة، ومع بني الحارث، نيف وسَبعون وقعة". انظر: التحف شرح الزلف، مجدالدين المؤيدي، ص: 197. 
 
وبحسب المؤرخ أحمد شرف الدين، فقد ذكر أنَّ عدد المعارك التي دارت بين الهَادي وآل يعفر والضَّحاك وآل طريف والأكيليين ما فاق الثمانين معركة، غير تلك التي خاضها مع القرامطة وهِي زهاء سَبعين معركة. انظر: اليمن عبر التاريخ، دراسة جغرافية تَاريْخيَّة سيَاسِيَّة شاملة، أحمد شرف الدين، ط:2، 1964م، 241.
 
وبحسبة بسيطة ـ فإن فترة حكمه، كما ذكرنا آنفاً من العَام 284هـ إلى العَام 298هـ، عام وفاته، أي أربعة عشر عامًا "مئة وثمانية وستون شهراً" فيها ما يزيد عن مئة وأربعين وقعة.. بما يعادل وقعة واحدة كل شَهر، أو شَهر ونصف تقريبا، ومع هَذا يقول عنه المؤيدي في موضع آخر: "ولقد ملأ اليَمَن أمنًا وإيمانًا، وعلمًا وعدلاً، ومساجد ومعاهد، وأئمة هدى." مضيفا: "وكراماته المنيرة، وبركاته المعلومة الشهيرة مشرقة الأنوار، دائمة الاستمرار على مرور الأعصار"!! التحف شرح الزلف، 201.
 
فأين هو الأمن؟ وأين الهُدى؟ وأين هِي الطمأنينة في المُجتَمع الذي تركه غائرَ الجرح، نازفَ الدم؟! إن الإجابة الواقعية والصحيحة فيما ذكره البحاثة اليمني الدكتور علي محمد زيْد حين أشار إلى الدَّولَة اليَمَنِيَّة عقب وفاته: وقَدْ توفي "مخلفًا وراءه دُويلة متدهورة إلى درجة الانهيَار، ووضعًا اقتصاديًا وماليًا لا يساعده على بقاء الدولة، واعتماداً شبه كلي على غير اليمنيين من العَلويين والطبريين في تولي الشؤون العَامة، مثل قيادة العَسكر وجِباية الزكاة والقضاء..". معتزلة اليمن، دولة الهَادي وفكره، علي محمد زيد، مركز الدراسات والبحوث اليمني، دار العودة، بيروت، د.ت. ، 95.
 
وتتواصل معارك الإمامة عن طريق أبناء الهادي الذين ورثوا عنه الحكم من بعده، مع أنه كان يعيب على الخلفاء العباسيين توريث الحكم لأبنائهم من بعدهم، ومع هذا ورث عنه الحكم ستة أبناء وأحفاد مباشرين.! وكان الحال من بعضه أيضا. 
 
وينطوي تاريخ أحفاد الهادي ليليهم المنصور القاسم بن علي العياني، ثم نجله المهدي الحسين بن القاسم العياني، وشهدت فترتهم معارك دامية، وحروباً متواصلة.
 
وتأتي فترة الطاغية أحمد بن سليمان، أول الذي دمر صنعاء وأخرب صعدة، بعد أن أعلن برنامجه السياسي أمام القوم شعرا: 
فمتى كسوت السَّيف من هام العدى   علقا كساني هيبة وجلالا
والسَّيف يُغني المفلسين ويشبع ال... غرثى ويروي العاطشين زلالا
والسَّيف ينفع في الصَّديق وفي الذي      عادى ويترك عزمه منهالا
والسَّيف يُسمع من به صمم إذا       حكمته ويعلم الجهالا
والسَّيف ينفي لي تحكُّمه الأذى     ولعزة ويُحصل الأموالا
والسَّيف يجمع لي إذا حكمته   قوما يفيد معونة ونوالا
فلأؤيمن نساء قوم  منهم      ولأوتمن من العدا أطفالا
ولأطعمنَّ الطيرَ من أجسَادهم    ولأكثرنَّ لجنْدي الأثقالا
انظر: سيرة الإمَام أحمد بن سليمان، 84.
 
ومما يُحسب لهذا الطاغية أنه كان أكثر صراحة من الطاغية الرسي، حين قَال في معرض حديثه عن مواجهة النَّاسِ واستباحة أموالهم: 
وخرَّبت أسْواقا لهم وصِياصيًا    وأغنيت مِن أموالهم جُلَّ أعْواني 
ذلك لأنه قد كفّر كل اليمنيين قاطبَة، حيثُ قَال في معرض حديثه عن الاسْتعانة بالمخالفين: ".. وكذلك الهَادي إلى الحَق ـ عليه السلام ـ لما قَام دخلَ اليَمَنَ وهُم مطبقون على الجبْر والكفرِ، فاسْتعان ببعضهم على مُحاربة البَعض الآخر..". انظر: سيرة الإمام أحمد بن سليمان، ص: 300. 
 
والآن.. هل توقف شلال الدم. 
في الواقع لقد زاد مع فترة السفاح الأكبر عبدالله بن حمزة الذي كفر اليمنيين واستباح أموالهم وأعراضهم وأنفسهم وأباد المطرفية كاملة. وفعله مع اليمنيين آنذاك، يفوق فعل داعش اليوم، معلنا للناس: 
صِرنا بحكم الواحد المنان       نملك أعناق ذوي الإيمَان
ومن عَصَانا كان في النيران     بين يدي فِرْعَون أو هامان
 
ولهذا فقد سبى من نِساء صَنعاء في معركة واحدة ستمئة امرأة، واقتسمهن أخوه وقائد جُيوشه يحيى بن حمزة مع قادة جيشِه ومقربيه في قاع طيْسان. 
 
وتتواصل مسيرة الدم في عهد الأئمة من بعده، ومنهم الأئمة من بيت شرف الدين؛ حيث قام المطهر بن شَرف الدين قائد قوات أبيه يحيى بن شرف الدين بارتكاب المجازر المروعة، حيثُ قَطع الأيدي والأرجل من خِلاف، وقتل الأسْرى، كما فعل مع أسْرى بِلاد عنس وخولان؛ بل لقد خالفَ أحكامَ الشَّريعة والأعراف السَّائدة، حين أقدم على قطع أيدي وأقدام ثمانين رهيْنة كانت تحت تصرفه بسجن القلعة، عقب انتفاضَة قبائل خولان ضده، من الأطفال المودعين لديه رهائن! 
 
وكذا فعل مع قبائل من سحار وعمار ويام وعبيدة ووادعة في واحدة من أشْهر وقعاته الحربية معهم؛ حيثُ قتل منهم في معركةٍ واحدة ألف قتيل، وأسَر ستمئة أسير، ثم أمر المطهر بالأسَارى، فضُربت رقابُهم عن آخرِهم. انظر: اللطائف السنية في أخبار الممالك اليمنية، محمد بن إسماعيل الكبسي، د.ت.154.
 
تلا بيت شرف الدين القاسميون في شهارة الذين امتد تسلطهم حتى ثورة 26 سبتمبر 62م، تأسس حكمهم على الدم، واستمر على ذلك، وعرفت اليمن مظالم جديدة، حيث تشرد الآلاف من اليمنيين في عهدهم، أو بالأصح تم تشريدهم إلى الصين والهند وشرق أفريقيا وشمال الجزيرة العربية، وخاصة في القرن العشرين إبان حكم الطاغية يحيى حميدالدين ونجله أحمد. فهذا القاسم بن محمد حين اختلف مع الصوفية في عصره كفرهم وأباح دماءهم، قائلا: ".. فالواجبُ على المُسلِميْن اسْتباحة دمائهم وأموالهم؛ لأنهم كُفار مُشركون؛ بل شركهم أعْظم وأكثر؛ لأن المشركين الذين كان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يجاهدهم يقرون بالله ويجعلون له شُركاء وهِي الأصْنام، وهؤلاء لم يجعلوا إلههم إلا الحِسَان من النِّسَاء والمُردان..". انظر النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة، ص: 31. 
 
وفي عهد المهدي محمد بن المهدي أحمد، المعروف بصاحب المواهب، وهو من أحفاد القاسم بن محمد غزا بلاد المشرق "البيضاء ويافع" أربعين غزوة بقبائل شمال الشمال الذين سَلطهم عليهم؛ بل إنَّ عددَ القتلى من يافع وحدها في إحدى المعارك بلغ سبعمئة قتيل؛ وفي موقعة أخرى في "المعسَال" من البيضاء بلغ عدد القتلى من قبائل يافع والبيضاء ألف قتيل، بينهم نساء؛ الأمر الذي ورث العداواتِ والإحنَ لعقودٍ من الزمن بعدها، ولا تزال، ومن هَذِه الغزوات إرساله أخاه الأكبر المحسن غازيا على البيضاء على رأس قوة قوامها ثلاثمئة فَارس وثلاثة آلاف من المشاة، فكان الهجوم على سُوق الأربعاء في شهر شعبان، عام 1099هـ. أتت هَذِه الحملة على السُّوق، فقتلت النَّاسَ وروَّعت الأهالي ونهبت الأموالَ، وخرجت القَبَائلُ هاربة بعد هَذِه الحملة المباغتة، ولا تزال هَذِه القَبَائل تتوارث الشؤمَ من يوم الأربعاء إلى اليوم، وإذا ما ذكره أحد أمامهم رد قائلهم: "على قرنك وقرن أبوك" بل لقد تم تغيير اسم يوم الأربعاء عندهم إلى يوم "البِرِك" اتقاء لسماع كلمة الأربعاء..! انظر: انظر: اليمن في ظل حكم الإمَام المهدي، د. محمد علي دبي الشهاري، 101.
 
وأكثر من ذلك حين سلط جنوده على بلاد وصاب وريمة، فأتوا أعمالاً إجرامية غير مسبوقة إلى حد أنهم قطعوا آذان النساء لأجل من عليها من الأخراص الذهبية والفضية. نفسه، 237. 
 
وواصل الطاغية يحيى حميدالدين في مطلع القرن العشرين إلى منتصفه ذات السياسة، وذات الإجرام، مستغلاً دعم البريطانيين له في البداية، من أجل مناوأة الأتراك العثمانيين، فجعل في كل بيت مناحة، سواء من القتل أو التشريد أو السجن، وقد اختصر أحد الشعراء سياسته هذه بقوله:
قــد بُليــنا بإمــامٍ        قتل الناس وسبّح
فهو كالجزار فينا       يذكر الله ويذبح
 
واليوم يواصل أحد أحفادهم ذات النهج، إذ تسبب الحوثي في قتل ما يزيد عن ربع مليون يمني في السنوات الأخيرة، وتشريد الملايين، داخلياً وخارجياً، إضافة إلى تقويض سلطة الدولة الشرعية القائمة، كامتداد لسياسة آبائه وأجداده. 
 
هذه إشارات بسيطة من إجرام الإمامة الهادوية في اليمن، من البدايات الأولى وحتى اليوم. فهل سيعي اليمنيون حقيقة هذه السلالة الخبيثة؟

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية