الدكتور صادق القاضي يكتب لـ " 2 ديسمبر " : سخرية اليوتوبيا.. طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي وشعار الحوثي!
قلت لأحدهم مرة: لماذا تكره إسرائيل؟
قال: لأنهم يهود!
قلت له: لماذا لا تكره إسرائيل لأنها كيان محتل غاصب لأراضٍ عربية؟!
قال: ما الفرق؟!
الفرق شاسع بين الرؤيتين؛ في التصورات والمنطلقات والغايات.. في الرؤية الأولى: أنت عنصري متخلف تحمل مشروعاً شمولياً وقضية خاسرة لن يتعاطف معها أحد، بينما في الرؤية الثانية: أنت صاحب حق وقضية عادلة ومشروع عصري تحرري نبيل.
لم يقتنع الرجل، ولم أستغرب لاحقاً التحاقه بالمليشيا الحوثية المهووسة بتوزيع الموت واللعنات على كل الجهات، وبالخصوص على اليهود، ولأسباب عقائدية لا علاقة لها، بالضرورة، بالقضية الفلسطينية.
حتى في حال ربط هذه الشعارات بالقضية الفلسطينية؛ فهي تعبر عن رؤية تشوه هذه القضية وتنحرف بها بعيداً، باعتبارها صراعاً دينياً بين الإسلام واليهودية، لا كفاحاً مشروعاً نبيلاً من أجل تحرير أراضٍ محتلة، وفق مبدأ تقرّه كل القيم الأرضية العادلة، والشرائع السماوية السمحة.
كان يمكن لهذه الجماعة، بدلاً من شعارات الموت واللعنة على اليهود، رفع شعارات ضد "الصهيونية"، فبغض النظر عن الكراهية وشرعية توزيع الموت العبثي، للصهيونية معنى سياسي عسكري استيطاني غير شرعي، بينما تنصرف كلمة "اليهود" بديهياً إلى أتباع دين سماوي له مشروعيته.
"اللعنة على اليهود" شعار عام بائس، يخلو حتى من الإبداع؛ إذ نظمه الحوثي على وحي الصرخة الخمينية، وكما هو منحرف في منطلقاته، هو منحرف في غاياته المتمثلة فقط بالمزايدة على شعوب المنطقة، وإسقاط أنظمتها ودولها لصالح المشروع القومي الفارسي.
لكن؛ للأمانة، لا تقتصر هذه اليوتوبيا الفجة على إيران والجماعات التابعة لها، بقدر ما تطال بدرجات متفاوتة كبرى التيارات السياسية: إسلاموية، وقومية ويسارية.. على امتداد العالم العربي. كما هي حاصلة في إسرائيل؛ فبالمثل، هناك عناصر وأطراف إسرائيلية تؤمن بخرافة "أبناء الله" و"أرض الميعاد"، وتتشبث بالوعود والحدود التوراتية، وترى في احتلال فلسطين استعادة مشروعة وربما واجبة لحق تاريخي، وهبة إلهية قديمة!
الفكرة الشمولية الطوباوية واحدة هنا وهناك، وإن كانت الصهيونية من جهتها حسمت هذه القضية، منذ البداية، وقبل قيام إسرائيل؛ فحددت في "مؤتمر بال 1897" في سويسرا، هدفها وهو "الحصول على الأرض"، وقضيتها وهي "إقامة وطن قومي ليهود العالم.
في المقابل يرفض معظم العرب، حتى اليوم، الاعتراف بأن موضوع هذا الصراع الذي تجاوز عمره قرناً كاملاً، يتمحور بشكل جوهري وموضوعي وعملي.. حول قضية أرض محتلة!
من وجهة نظرهم: الأرض الفلسطينية والسورية المحتلة جزء مهم في الصراع، لكن الصراع، جوهرياً، هو صراع وجود لا صراع حدود!
بداية بفصائل الإسلام السياسي، شيعية وسنية، هذه الجماعات الشمولية ترى أن هذا الصراع جزء من صراع عالمي سرمدي بين الخير والشر، أو الحق والباطل، أو الإيمان والكفر... وأنه يمتد ليشمل يهود العالم عموماً فضلاً عن الصهاينة وإسرائيل!
المفارقة الساخرة على الصعيد العملي، أن كلّاً من هذه الجماعات تتخذ من هذه القضية النبيلة، مطية لتحقيق أجندة محلية أو إقليمية.. ضمن بروباجندا فنتازية غارقة في التناقضات التي يمكن ملاحظتها في التصريحات الإيرانية ذات العلاقة:
الرئيس نجاد: "إيران عازمة على إبادة إسرائيل، ولن تتراجع أبداً عن موقفها"!
قائد القوات الجوية عزيز نصير زاده: "ننتظر بفارغ الصبر قتال إسرائيل لمحوها من الوجود"!
في المقابل:
جواد ظريف، وزير الخارجية الإيرانية: "إيران لم تقل يوماً إنها تريد محو إسرائيل عن الخارطة"!
الرئيس روحاني: "إيران لا تريد الحرب مع أيّ بلد"!
وبطبيعة الحال، فتصريحات الممانعة مخصصة للمزايدة على الشارع العربي والإسلامي، وتصريحات المهادنة مخصصة للمراوغة مع المجتمع الدولي.
عوداً إلى قوى اليسار العربي (قومية واشتراكية)، هذه القوى وإن حصرت المشكلة في الكيان الإسرائيلي، تحمل بدورها أشكالاً أخرى من التعميمات الجزافية؛ فتجعل الصراع العربي الإسرائيلي جزءاً من الصراع بين المستضعفين في الأرض والقوى الإمبريالية والرأسمالية الغربية!
كان عبدالناصر أنبل من يمثل الفكرة الوجودية للصراع العربي الإسرائيلي، لكنه على الأقل، كان جاداً صادقاً مع نفسه ومع غيره، في عبارته الشهيرة خلال حرب 67: "ما لإسرائيل إلا البحر".
أياً كان الأمر.. فقد انحسر المد القومي اليساري، الذي كان له رغم كل شيء، إيجابيات كثيرة، على الأقل نجح نسبياً في عزل إسرائيل، وتحرير دول عدة من أنظمتها الرجعية أو الاستعمارية، وبناء أنظمة ومجتمعات مدنية حديثة..
فصائل المد الديني الراهن، بالمقارنة، هي- بوعي أو بغير وعي- ظاهرة تخدم إسرائيل التي لم تكن تحلم أن تثأر بهذا الشكل المجاني من المد القومي واليساري والليبرالي، بتدمير كل ما حققه من قيم ومؤسسات ومنجزات حديثة بناءة، قادرة على كبح جماح إسرائيل.
لم يكن يحلم أحد في تل أبيب بالثأر من العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا.. بتفتيتها حتى العظم، وجعل هذه الدول المناوئة لها على حافة أن تفقد موقعها على الخارطة.
في كل حال، لا حاجة لتأكيد العدمية الرثة والعبثية التعيسة في كل هذه الرؤى والأفكار والتوصيفات الأيديولوجية، للقضية العربية الإسرائيلية، وأنها لم ولن تؤدي إلى حل للصراع، بقدر ما جذّرت المشكلة التي ما زالت مفتوحة على احتمالين لا ثالث لهما:
- إمّا حلاً نهائياً عادلاً شاملاً لمشكلة الأرض والسكان، بناءً على أن هذا الصراع صراع حدود لا صراع وجود.
- أو استمرار محاولات محو الآخر، بناءً على أن الصراع صراع وجود لا صراع حدود.
هذا الخيار الأخير، تدعمه الرؤى والقوى التقليدية المتماثلة جوهرياً على الجانبين: العربي والإسرائيلي، ويعني امتداد الصراع إلى ما لا نهاية، ومن الجانب العربي، فحتى "تحرير فلسطين، كل فلسطين" لا يكفي لإنهاء هذا الصراع الذي تم منحه أبعاداً وامتدادات دينية وقومية وتاريخية.. وجودية ومصيرية!