"من مواطن يمني في صنعاء إلى الوفد العماني": هل تعلمون بقية الحكاية؟!
مساء الخير يا جيران الوطن والجغرافيا، مساء الخير يا وسطاء السِّلم والسلام، مساء الخير أيها الوفد العماني المحترم؛ أتمنى أن تكونوا سعداء في وطننا الحزين، أتمنى لكم الخير والسلام، أنا مواطن يمني، يعيش هنا، في عمق هذا الوجع اليمني الكبير، أشاهدكم دائمًا تصلون إلينا، ثم تغادرون، وبعدها تعودون، ثم تتحدثون عن تفاصيل سياسية لا يفهمها المواطنون هنا، ولا يهتم بها الناس من حولكم في هذا المكان، دعوني يا سادة السياسة أقول لكم بقية الحكاية، بلسان يمني خالص، لسان يعيش وسط العوام المسحوقين، مع شعب قابع منذ ثماني سنوات تحت وطأة الظلام وقهر الزمان ويأس المكان والزمان، دعوني أنقل إليكم واقع الحياة والناس هنا، لعلها تصل إلى قلوبكم وقناعاتكم، مع خالص المحبة والاحترام.
في صنعاء يعيش الناس بحالةً من الترقب والانتظار.. من اللا وضوح واللا استقرار، ينتظرون شيئًا ما، شيئًا من العدم، معجزة تحدث بلا توقعات، تحوّلًا سلطويًا بلا ميعاد، حدثًا عابرًا يعيدهم لممارسة حياة مفعمة بالاستقرار والأمان في الواقع والحلم والأمنيات.. هذا الواقع والغموض واللا استقرار مجرد زمن مؤقت لا يبقى للأبد.. لا يبقى الظلام الحالك للأبد أبدًا.. هذه قناعات الناس في مناطق سيطرة الحوثيين، وهكذا يمارسون يومياتهم وحياتهم وتوقعاتهم، ينتظرون الفرج، وزوال الوباء والسقم، ولا يهمهم شيئًا آخر مما يُطرح فوق الطاولة أو تحتها، لا تعنيهم أي مطالب واشتراطات لا تمس معاناتهم أو تخفف الأعباء المعيشية التي تثقل كواهلهم، يتطلعون أن يفيقوا يومًا وقد انزاح عنهم الكابوس الجاثم على صدورهم وأنفاسهم منذ 8 سنوات عجاف.
لا يُعقل أن ما يحدث معهم مجرد أحداث عابرة، أحداث يطويها النسيان، لا يعقل أنها بتكرارها هذا تصبح هباءً وخيالات وروايات مجهولة عن معاناة شعب طالت سنوات شقائه وظلمه، هذه الأحداث في سياقاتها اليومية هي ذاتها ما يحدث ويتكرر لمئات الآلاف من الشعب والناس، للملايين من اليمنيين، لا يُعقل أنها تحدث معهم بطريق المصادفة، لا أعتقد ذلك، يزداد إيماني الدائم بمسؤوليتي عن كتابتها، أنا فقط، لا أحد سوَاي، لماذا أنا؟! لا أعلم، لكنها تتكرر معي أينما اتجهت وكيفما عبرت، ومعها تزداد حيرتي كلما تلاشت ثم تجددت أو تكررت، غير أنها بذلك تعود للحدوث والتذكير، وبالمقابل تزداد عزيمتي في كتابتها، ومعها أثق بقدرتي على فعلها، سأكتبها إليكم رغمًا عن كل شيء، بتفاصيلها وأحداثها، بواقعيتها المخيفة وبشرها الخائفين، بتجاوزات المتحاربين على رؤس الناس، تجاوزات فظيعة بالغة الأثر والضرر والتذليل. هذه حقائق تتكرر في كل ثانية من زمن الحرب والحوثيين، حقيقة وواقع يعيشها الشعب كأنها بالفعل حياتهم الجحيمية.
سلطة الحوثيين هنا برجالها وقطيعها تتطاول وتتجاوز وتشتبه وتحتجز وتهدد وتخيف وتلاحق وتسرح وتستعبد وتهين وتتعمد إفقار شعبها، الشعب هو الضحية، هو المتهم، هو المشتبه، هو الخائن، هو المرتزق، هو الملعون، هو المهان، هو المذلول، هو المعلول، هو الجائع، هو المقتول، هو ما يستحق كل شيء، لا كرامة له في وطنه المملوك للمتقاتلين به، وفيه، وعليه. لكنها الكلمات والحروف والإرادة والضمير من ستكتب كل هذا، هي من سيجرؤ في النهاية.
في مناطق سيطرة الحوثيبن، تتعاقب الأيام والأحداث سريعًا على الناس والمواطنين، ومعها تزداد تكاليف العيش وأسعار البقاء، أسطوانة الغاز الواحدة زاد سعرها ثمانية أضعاف، والكل مرغم على الصمت والسكوت.. ثمن الكهرباء صار بعشرات الآلاف يوميًا، وكل يوم يهددون بقطعها ومصادرتها، ربما ستمضي الأيام لتصبح حصرية على الأغنياء منا، والمياه بلغ سعرها فوق ما يتصوره الخيال، بعد أن أخذوا أبيارنا القديمة لتضخ مياهنا إلى مزارع افتراضية لا نعرف عنها شيئًا.. وايت الماء تجاوز سعره سقف عشرة آلاف ريال، وماء السبيل لم يعد يأتي.. رغيف الخبز صار صغيرًا جدًا وثمنه أكبر من حجمه بكثير، وأكياس الدقيق انقطعت واختفت منذ أشهر، ومبالغ الاتصالات والإنترنت صارت جنونية ومرعبة ورصيدها ينتهي بسرعة فائقة تتجاوز البطء السريع للخدمة المقدمة، والتعليم لم يعد في هذا المكان سوى تضليل وتجهيل وفق مخطط ممنهج لتشييع الشعب وجعله يؤمن بخرافة الولاية وأن الحكم من عند الله لسلالة معينة، والصحة صار الموت فيها أرحم بكثير من الوقوع بوهم المحاولة والخوض في فكرة الدخول للعلاج..
هذه المدن الشاحبة لم تعد تشبهنا أو تشبه أحلامنا وخيالاتنا عنها، لقد جعلونا غرباء عنها وعن أنفسنا وبيوتنا، لم تعد منا أبدًا، صنعاء باتت حوزات إيرانية وفيها صارت الأيام خانقة ومخيفة ومزيفة، وفكرتها قاسية، وأضواؤها الليلية فاحشة، ومن لازالوا يتفاءلون بها سينتحرون بلا شك، ستنتهي أحلامهم في أروقة مظلمة، ودهاليز مخيفة، وستظل أيامهم القادمة تأتي بأقبح مما عرفوه فيها أو تفاءلوا به عنها ذات يوم.. لقد أعادنا الحوثيون سبعمائة سنة من اليأس والخذلان، لقد طمسوا ملامحنا، وداسوا على أحلامنا، وسحقوا رغبتنا بالبقاء، ومن تبقى منا أخذوه للمحاكمة والسجون، الناس في أسوأ مراحل حياتهم الأزلية، عن فترة لا يمكن لأحد تخيلها، فترة الفقر والجوع والضياع، مع سلطة لا تهتم إلا بنهب ثرواتنا ومستقبلنا، سلطة العمارات والتجارات السوداء، سلطة الضرائب والإتاوات، سلطة لا تفكر أبدًا بتسليم رواتب الموظفين.
ثم أما بعد:
أيها الوفد العماني، الناس هنا يناشدونكم بقلوبهم، ضعوا أمامكم هموم ملايين اليمنيين، ليسوا حوثيين وإنما فقط يعيشون تحت سيطرة الحوثي بلا رواتبهم المتوقفة منذ سنوات طويلة، الناس هنا وصلوا إلى حد كارثي لا يمكنكم تخيله، يتقاتل رجل مع تاجر في صباح أحد الأيام على كيس دقيق، يقول الرجل: ما أصنع، أطفالي يموتون من الجوع؟! مع العلم لا أحد يكترث لشيء إذا كان جائعًا أو ميتًا!! أرجوكم صارحوا اليمنيين عن السبب والمتسبب الحقيقي بهذا، تحدثوا عن المعرقلين أو اتركونا وغادروا، ما نصنع بوفد سياسي يأتي ويغادر، ثم يأتي ويغادر، والناس بلا رواتب؟! الجوع هنا لا يرحم، والعجز قاهر للرجال في زمن الانقطاع والضياع.
أخيرًا: سأسرد لكم رسالة "رجل دولة" من الزمن الماضي، أرسل قبل أشهر رسالة إلى زوجته وأبنائه، بعد أن عجز عن توفير تكاليف العيش لهم، بسبب انقطاع الرواتب وضياع الدولة، هكذا قال في ختام رسالته إليهم: أنا آسف يا زوجتي.. آسف ألف مرة.. آسف كل يوم ويوم. لا أملك ما أصنع لكم غير الأسف. أنا آسف ألف عام. خائف بعد كل شيء، أقولها بصدق.. خائف حقًا، ولا أريد العودة إلى البيت، هذا عذاب لا يمكنه أن يذهب، كيف لي مواجهة نظرات الشفقة والأحزان في عيون العيال والأبناء؟! أنا عاجز حقًا عن البقاء على قيد الحياة، لقد أعطيت أبنائي الآمال والأحلام، وهآنذا عاجز وخائف بالشوارع والممرات، أنا آسف يا زوجتي، لن أعود إلى البيت، سامحيني، أنا لست خائنًا، ولست رجلًا جبانًا، ولكني خائف من عجزي أمامكم، من نظرات البنات بوجه والدهن المسكين، كلا لن أكسر ما تبقى في بيتنا من حياة، لن أمحوها بالعجز والفقر والخذلان، ستكونون بدوني أقوى وأعظم، حتى يذهب العيد، لن أعود إلى البيت، لن أعود إلى البيت!