الانطباع الأول لأي مطلع على التاريخ اليمني القديم والحديث هو أن هذا التاريخ مثقل بالحروب، والنزاعات الأهلية، وأن الشعب اليمني لم ينعم طوال تاريخه كله بالسلام والأمن والاستقرار حتى لمدة عقدين من الزمن، وبما يعني أن التاريخ اليمني هو ببساطة مرعبة تاريخ ثلاثة آلاف عام من الحروب والصراعات الأهلية، وأن اليمن كانت طوال تاريخها حَلبة للهويات المتصارعة:
حروب الثلاثمئة عام، ثم الصراعات الدينية الدموية بين اليهودية والمسيحية قبل الإسلام، ثم حروب العشرات من الدويلات المناطقية، بعد الإسلام، ونزاعات الدويلات الإمامية، طوال العصر الوسيط، وصولًا إلى العصر الحديث: حروب الإمامة، ثم حروب الثورة، ثم حروب الشطرين، وحرب الجبهة الشعبية، ثم حرب الانفصال والحروب الست ضد الحوثية، ثم حروب الشرعية..!!
 
السؤال هو: ما الذي يجمع بين كل هذه الصراعات والحروب، التي تسببت بانهيار الدولة والحضارة اليمنية القديمة، قبل الإسلام، وجعلت اليمن تعيش على هامش العالم طوال العصر الوسيط، وأثرت وتؤثر بشكل كارثي على مختلف جوانب الاستقرار والبناء والتنمية، وكافة مستويات التحديث والمعاصرة.. وتسببت بانهيار الدولة اليمنية الحديثة؟!
 
يمكن- بالقليل من الاستقراء المنهجي لهذا التاريخ القديم والحديث- ملاحظة أن كل هذه الصراعات والاضطرابات والحروب التي تعيشها اليمن اليوم، وعاشتها طوال تاريخها القديم والوسيط، تعود جوهريًا إلى أزمة عويصة، وإشكالات مزمنة في مسألة "الهوية" التي تتمثل عمليًا بوجود عدد من الهويات الفئوية، كانت دائمًا تعتلج في صميم الواقع اليمني، وتفرض نفسها بدرجات متفاوتة من النفوذ على حساب الهوية القومية الجامعة.
وبالتالي لا مفر لأي مقاربة منهجية جدية للإشكالات والأزمات اليمنية الراهنة، من الأخذ بالاعتبار معضلة الهوية هذه قبل أي شيء آخر، ومن بين هويات لا وطنية كثيرة قديمة وحديثة.. لدينا اليوم: في الجنوب، جزء من المجتمع يتبنى فكرة أن للمجتمعات الجنوبية هوية مختلفة عن هوية بقية الشعب، أو هكذا يتم التعبير أحيانًا عن مطلب "الانفصال"، رغم أن الهوية اليمنية كانت حاضرة قبل الوحدة، ولن تتلاشى في حال تم "الانفصال"!
وبشكل أكثر إشكالًا.. لدينا في الشمال جماعة كهنوتية حاكمة تزعم أحقية إلهية في السلطة، استنادًا على هوية عنصرية سلالية مقدسة، تكرس في الوعي العام أن الهوية الأهم والأكثر أولوية للشعب اليمني هي "الهوية الإيمانية" كهوية شمولية ديماغوجية متناقضة تمامًا مع "الهوية الوطنية، وتصوراتها وسلوكياتها وأولوياتها المفترضة!
لدينا أيضًا هويات قبلية يتبناها كثير من أبناء القبائل، وهي هويات عنصرية يترتب عنها عزل شرائح وفئات يمنية كبيرة، اجتماعيًا، باعتبارهم أعراق أقل مرتبة من أعراق أبناء القبائل، بجانب هويات جهوية مناطقية، أفرزها انحطاط الوعي والفكر والأداء السياسي للكيانات السياسية خلال العقود الماضية.
 
لا يمكن حل هذه الإشكالات الهوياتية بشكل عسكري، وإن كان الخيار العسكري ضروريًا لمعالجة تلك الهويات الفئوية، التي تفرض استحقاقاتها العنصرية المزعومة بالعنف والسلاح؛ لكن في الأخير، الهوية ليست بنية مادية يمكن نسفها، بل مسألة ذهنية، ورغم ارتباط الهوية بالتاريخ والجغرافيا، واللغة والأبعاد الثقافية والسياسية.. فهي بمفهومها الأكثر تجريدًا، قيمة نسبية، تتعلق بالوعي والشعور الجمعي بالانتماء إلى كيان واحد مشترك.
 
أي أننا هنا أمام أزمات فكرية أيديولوجية ثقافية، لها انعكاساتها الاجتماعية والأمنية، ولا يمكن معالجتها مبدئيًا إلا من خلال شيئين، وفي نفس الوقت: الأول: من خلال التعليم والإعلام والثقافة.. والثاني: من خلال الدولة الوطنية الحديثة، يتكفل الأول بالجانب الذهني في المعضلة، بمحو الهويات اللا وطنية وترسيخ الهوية الوطنية في الوعي الجمعي، في حين تتكفل الدولة بفرض نفسها ومؤسساتها على الجميع، على أساس المواطنة، باعتبارهم متساوين في الحقوق والواجبات كأعضاء في كيان واحد، وفي ظل وطن مشترك.
 
العملية ليست سهلة، لكنها ممكنة، وضرورية واستراتيجية بشكل وجودي للحياة في العالم الحديث، لا يمكن لأي دولة حديثة أن تكون كذلك إلا بإنجاز هويتها الوطنية، في حين أن "الهوية الوطنية" في اليمن، كهوية وطنية قومية لشعب معين، يعيش في بلد تحدده الخارطة السياسية بهذا الاسم، وباعتبارها البديل الحضاري الحديث عن مختلف الهويات غير الوطنية.. ما تزال على صعيد الوعي الجمعي والثقافة العامة، غضة، محفوفة بالإشكالات، ولم تترسخ بعد، بخلاف حالها في معظم دول العالم المعاصر.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية