الدكتور صادق القاضي يكتب لـ " 2 ديسمبر": رحيل الزعيم "صالح".. مفارقات اللحظة الفارقة.!
"الاثنين" الأسود، 4 ديسمبر 2017م، لم يكن ورقةً عاديةً في التقويم، ولا لحظة عابرة في الزمن، بل كان منعطفاً تاريخياً فارقاً دشنه رحيل الرجل الأول والأكثر أهمية وفاعلية وتأثيراً في الحياة السياسية اليمنية، والتاريخ اليمني المعاصر على الإطلاق.
"على عبد الله صالح": 40 عاماً في صناعة القرار اليمني، و"الرقص على رؤوس الثعابين"، على رأس هرم الدولة والسلطة، أو قريباً منه، في حقبةٍ هي الأكثر كثافةً بالانكسارات والانتصارات، والأزمات والصراعات والتحولات المحلية والإقليمية والدولية العاصفة.!
في هذا اليوم رحل بشجاعة وشرف، بعد يومين من انتفاضته المفاجئة التي عصفت بكل العواصف والعواطف اليمنية تجاهه إلى النقيض، وأعادته إلى مركز الوعي والوجدان والحماس الشعبي من جديد، باعتباره هذه المرة البطل والمنقذ والمخلص، والأمل الأخير في حل المعضلة اليمنية برمتها.!
لكن الرياح، عاندت السفن اليمنية، مجدداً، ورحل الرجل بشكل غير متوقع، تاركاً وراءه فراغاً شاسعاً مخيفاً، ويأساً أكبر تجاه المستقبل، كما لو أن تلك الانتفاضة كانت بالنسبة للشعب هي الاستئناف الأخير من حكم نهائي بالسجن المؤبد في غابة تحكمها مجموعة من الضباع.!
باستثناء القوى الظلامية القادمة من كهوف التاريخ: الحوثيون وثلة حاقدة، حزن الشعب اليمني كله على نفسه من خلاله. بمن فيهم:
- مؤتمر الرئيس هادي، بعد انشقاقه، ومحاولة إزاحته عن الحزب، وإعلان الحرب عليه.. عادوا فوجدوا في صالح الأمل الوحيد في الخروج من شتات المنافي، وأرصفة المراهنات الخاسرة.!
- أحزاب المعارضة، التي عملت ضده، طوال عقود، وتآمرت عليه مع الداخل والخارج.. يئست في الأخير من كل شيء وعادت، وعاذت، ولاذت به في النهاية.!
- من يسمون أنفسهم (ثوار) 2011م، بعد ست سنوات من رفضه ومناهضته وتشويهه.. عادوا بعد فشل كل شيء، وراهنوا عليه في نهاية المطاف.!
- رفاق صالح الذين قفزوا من سفينته 2011م، وحاولوا إغراقها طوال هذه السنين، عادوا وتعلقوا بسفينته لتنجيهم من الغرق.!
لم يرحمه أحد في سنواته الأخيرة. كلهم شاركوا في قتله. في شيطنته وإضعافه وتحجيمه وتآكل قوته ونفوذه وإمكانياته.. ثم فجأة.. أصبح هو أملهم الأخير.. في إصلاح ما أفسدته الحرب والسياسة، واستعادة ما فرطت به المكايدات والمناكفات والمراهنات الخائبة.!
لكن الوقت كان قد فات.. باستثناء شعبيته وشخصيته الكاريزمية، كان صالح قد تجرد أو تم تجريده من عوامل قوته واحدا واحدا.. ببطء.. وبالتدريج.. فلم ينتفض إلا ويده خالية من كل الإمكانات المادية والعسكرية.!
ومع ذلك. حضرت المفارقة بقوة.. كيف يمكن لمثل هذا الرجل أن يسقط بمثل هذه السرعة والسهولة التي لا تتناسب مع دهائه وخبرته العسكرية والأمنية المكينة..!؟
حتى الآن ما زال الذهول والغموض هما سيدا الموقف الشعبي تجاه الروايات المتداولة عن حيثيات وتفاصيل اللحظات الأخيرة من حياة هذا الزعيم الراحل.!
لم يصدّق بعضهم أنه مات، وما زالوا يراهنون على عودته ليعيد اليمن إلى سابق مجدها في عهده، ويعيد للشعب دولته وكرامته، ويخلصه من الذئاب التي تكالبت عليه، ويملأ الأرض بالفرح بعد أن ملئت بالجور والحزن وغرقت في الضياع.
لا يحدث هذا إلا لكبار أبطال التاريخ، وصنّاع الأمجاد والأوطان، بعد رحيلهم، ومثلهم تحول عهده في الوعي العام إلى "الزمن الجميل"، وتحول هو إلى أسطورة تاريخية ملهمة في الخيال الشعبي، بفضل أشياء منها فشل السلطات والقوى والمشاريع الفئوية البديلة.
كان الرقم الأصعب، وكما يحدث عادةً بعد خروج الأرقام الصعبة من المعادلات البسيطة، كان رحيله حدثاً مزلزلاً للمعادلة السياسية والعسكرية في اليمن كلها، مخلفاً وراءه كمّاً كبيراً من التحديات والمصاعب والتخمينات المفتوحة على الأهوال:
- كرقم صعب. من الصعب التعويض عنه، كحليف أو خصم، أو شريك، أو نقيض، أو ككيان ودور متماسك في مشهد بالغ التشرذم والتشظي والعدمية.!
- من الصعب أيضاً -على عكس ما يظن ويحاول البعض- تحويله إلى كبش فداء لخطايا النظام السابق الذي كان طوال عهده تحالفا بين قوى عسكرية وقبلية ودينية معروفة.
- أمّا الأصعب على الإطلاق. فهو تجاوزه بالبدائل الراهنة.
للرجل من الحسنات والمنجزات ما يفوق قدرة الآخرين حتى على الحفاظ عليها، وفي أسوأ الأحوال من الصعب تقييم تجربته الطويلة الحافلة بكل هذه الأحداث والتحولات، وعموماً هي مسألة تخص الباحثين والمؤرخين.. لا الهواة والمراهقين.