العيش في تعز يعني الاقتراب من عاصمة الدولة الرسولية، أما السكن في الجحملية فهو بمثابة العيش في اليمن الصغرى ؛ فعلى مدى أكثر من نصف قرن من الزمن، كانت جحملية تعز أهم الأحياء اليمنية.. بها مرّ التاريخ، وفيها عاش أجمل أيامه؛ بينما تبدو اليوم على سفح جبل صبر، كما لو أنها عجوز تتكئ على هذا الجبل الشاهق.. قَدِمتْ من بعيد التاريخ، بصُرة مُثقلة بذاكرة المكان.
 
لماذا الجحملية؟
 
لماذا ا حوّلت مليشيا الحوثي الجحملية إلى خراب ودمار.. هل كانت هذه الحرب ضرورية..؟ ولماذا خيار التدمير، وليس خيارًا آخر..؟! الإجابة على التساؤلات تتعلق بالنهايات، عادة تلزمنا العودة إلى قراءة البدايات، مع من سكنوها، وعاشوا تفاصيل العصرين.
 
ولأن الجحملية تمتاز بموقع جغرافي يعلو عددًا من الأحياء القديمة، إضافة إلى قربها من الموارد المائية؛ فقد اتخذها الإمام الطاغية أحمد مقرًا للحكم، الذي اتخذ من تعز عاصمة لحكمه في أربعينيات القرن الماضي.. الأمر الذي حوّل المنطقة إلى حاضنة للسياسيين، وقادة الدولة، وهذا ما أكسبها شهرة واسعة.
 
يقول فكري قاسم (كاتب): "الجحملية كانت الحي السياسي للإمام أحمد.. لما نزل الإمام من صنعاء، كانت عاصمته السياسية هي الجحملية، لأنها منطقة توفرت فيها كل أركان الدولة، موجود العرضي، وفيها المتحف، الإمام لم يضف سوى قصر صالة.. انتقل إلى هنا وسكن مع حاشيته كلها.. طباخ الإمام، قائد الحرس، كل الشخصيات التي كانت حول الإمام.. سكنوا هذه الأحياء، فتكوّن هذا المجتمع من هذه الشخصيات، إضافة للناس التي كانت تعتبر الجحملية مكانًا مهمًا للعيش.. كانت الجحملية مكانًا مغريًا لانتقال التجار.. جميع الناس سكنوا في هذا المكان".
 
يضيف: "كان في الجحملية عائلات يهودية، زيدية، سنية.. كل الناس سكنوها، بفضل ثورة سبتمبر لم يكن هناك أي منغصات.. تطورت الجحملية فيما بعد، وأصبح كل القادة السياسيين يعيشون في هذا الحي.. بفترة امتداد حكم علي عبدالله صالح، وفترة الحمدي.. كل الناس كانوا ساكنين في هذا المكان".
 
عُرِفت الجحملية باليمن الصغرى، نظرًا لروحها المكانية، وشخوص ذاكرتها الجمعية، وحيوية مجتمع خليط في حي يُعتبر بنظر كثيرين بلدًا كبيرًا.. غالبية سكانها جاءوا وافدين من مدن يمنية مختلفة بدءًا من صنعاء وعمران، وصولًا إلى إب وعدن بحسب معاصرين، وكتاب صحفيين، يرون أن الجحملية ما هي إلا صورة مصغرة لليمن، تحتوي كل اليمنيين.
 
التنوع الديموغرافي ساعد في احتضان القبائل من جميع المدن.. تعددت الأصول، وطبقًا لباحثين فإن أبرز الأسر التي سكنت الجحملية هي الهمداني، الجرموزي، الآنسي، الوشلي، الجنيد، السامعي، القيسي، وبيت طربوش، واليمني.. هذا المزيج السكاني يؤكد تعايش الناس، ومدى انفتاحهم، والبساطة التي جعلت الحي كتلة اجتماعية واحدة من الناس والوجهاء، والقضاة.. ذلك التنوع أوجد مشهدًا قلّما تجده في غير الجحملية، بل وقدّم صورة جميلة للتعايش.
 
يتذكر أحمد شوقي، (صحفي): "الجحملية إحدى الحارات القديمة بتعز، وقد ضمت خليطًا بشريًا متنوعًا من كافة أنحاء اليمن.. ضمت تعز، وأبناء ذمار وصنعاء، وحضرموت.. كان هناك مزيج من التعايش.. لكن خلال الحرب أصبحت هناك مشكلة في نزوح هؤلاء السكان إلى المناطق الريفية التي ينتمون إليها، كونهم أصبحوا غرباء، ينتمون إلى الجحملية ثقافيًا واجتماعيًا ومن كافة النواحي".
 
ما إن اجتاح الحوثيون تعز، في العشرين من مارس/ آذار 2015، حتى سيطروا على العديد من المرتفعات والأحياء.. كانت الجحملية هدفهم الأول، اتخذوا من المنازل والمرافق الحكومية ثكنات عسكرية، ومقرات للاجتماعات، ومركزًا لتنفيذ المهمات.
 
وبحسب الصحفي فكري، وهو أحد أبناء المنطقة، فإن الحوثيين وجدوا الجحملية بساطًا مفتوحًا.. فيها الكثير من أسر الهاشمية السياسية، لذلك جاءوا من أجل إثارة النعرات بخطاباتهم، والتوغل وسط المجتمع، واستقطاب الشباب العاطلين عن العمل.. "الحوثيون وجدوا فرصة في هذا المجتمع، أثاروا النعرات بين الناس، وغذوا الفكرة السلالية عند الموجودين، وأغروهم، فأصبحت الجحملية هي مدخل الحوثيين إلى تعز.. هذا عمل انعكاسًا سلبيًا للناس، حيث أصبح ينظر إلى الجحملية على أنها حي زيدي أو حوثي.. دخلوا، وتوغلوا، ونشطوا فيها، وحصل الدمار، لأنهم جاءوا على مجتمع عاطل، طاقات مهدرة، فالحرب باليمن كوم، والحرب بالجحملية لوحدها كوم".
 
من جهته، يؤكد شوقي في حديثه: "في الجحملية أسر تعزية جاءت منذ 700 سنة.. هذه الأسر تنتمي إلى السلالة الهاشمية، كانوا مندمجين مع البيئة الديموغرافية، أسر تنتمي إلى الجغرافيا الزيدية من عسكر الإمام، الذين جاءوا بعد ذلك.. الملاحظ في فترة الجائحة الحوثية، تم تحويل الأسر الزيدية التي عاشت في الجحملية وتعز إلى أسر متعصبة، مارست إقصاء واستهدافًا لأبناء تعز".
 
هكذا تسلل الحوثيون إلى مدينة تعز، من خلال منطقة الجحملية، تلك المنطقة التي حاولت المليشيات تحويلها إلى حصن منيع لهم، ونقطة بداية لتوسيع المشروع السلالي؛ لكنها لم تفلح بذلك.
 
الجحملية نازحة، اعتقال وتهجير للمدنيين، مسلسل طويل من المضايقات.
 
لم يكن دخول الحوثيين الجحملية مجرد عبور هادئ، إنما بدأت هذه المليشيا باعتقال الأهالي والساكنين، الذين يشكّون بعدم ولائهم، أو يرونهم حجر عثرة أمام مشروعهم التوسعي في تلك المناطق.. ليس هذا فحسب، بل شردت البسطاء من منازلهم، وكثيرة هي الوقائع والقصص التي رواها لنا ساكنو الحي.. أسرة أسامة ذيبان، واحدة من الأسر التي أقدم الحوثيون على تهجيرها بتهمة العمالة وعدم الولاء.. تلك الأسرة التي كانت تسكن الجحملية منذ عقود، لكنهم أمام سلاح الحوثي لم يجدوا حلًا سوى الخروج، تاركين البيوت لغير أهلها.. ليعودوا بعد أشهر، وقد تحولت المنازل إلى ركام.
يتحدث الرجل: "مليشيات الحوثي أخرجونا من منازلنا وأصبحنا نازحين.. في البداية أحرقوا منزلنا بالبترول والحطب، وبعد يومين من الإحراق أعلنوا أنهم سيفجرون البيت.. يحاولون استقطابنا بتهديدات، لكن قلنا لهم ما يهمنا البيت، بالنهاية سندخل ونستعيد حارتنا.. وبعد ثلاثة أيام زرعوا عبوات ناسفة حول البيت، وفجروها بالكامل".
 
ويضيف: "في الجحملية الوسطى عمي يمتلك بيتًا دمرتها مليشيا الحوثي، وبيت عمتي، وبيت جدي، ثلاث بيوت دمرتها المليشيات.. معروف عن المليشيات تفجير المنازل في كل بلاد، ليس في الجحملية فقط، أو في تعز.. دخلوا عمران وصنعاء فجروا المنازل، نزلوا إب وعدن فجروا البيوت.. منهجهم تفجير البيوت والمساجد".
 
وأنت تقف اليوم على أطلال هذه المنازل المدمرة، تدرك للوهلة الأولى أن الساكنين هنا، تعرضوا لمسلسل طويل من المضايقات، فإلى جانب التهجير القسري، عمد الحوثيون إلى نهب المنازل وتفجيرها بهدف تخويف وإثارة الرعب بين المدنيين.. ففي زمن المليشيا صارت الجحملية بدون سكان، طبقًا لشهادات كثيرين.
 
وبحسب توصيف الكاتب عبدالسلام القيسي، فإن الجحملية تمثل اختصارًا لليمن الكبير، فهي يمن صغيرة ومدينة أخرى داخل تعز.. كانت نواة السلطات الحاكمة، وفي العهد الجمهوري مثلت تجسيدًا للتنوع الاجتماعي، وشكلت خليطًا يتعالى على المناطقية، والمذهبية.. هي كل اللكنات، وكل المذاهب، والجهات.. لذا بعد مرور الحوثي في أول سنة انقلاب من الجحملية، وتدميره لكل شيء فيها- والدمار الذي حدث للجحملية لا يمكن وصفه- يمكننا القول أنه دمر اليمن قاطبة.
 
ويشير القيسي في حديثه إلى أن ما خلفه الحوثي من حرب ودمار في الجحملية أصاب كل مدينة يمنية فابن ذمار الذي يسكن الحي، تدمر منزله، وابن إب والصنعاني والعمراني.. لقد تدمرت الوثيقة الاجتماعية الأولى، بالتدمير الذي حدث لحي الجحملية، وتفرقت العائلات والأسر وعادت كل أسرة إلى جذورها، ويكون الحوثي قد قام بقتل أهم صور التعايش في هذه البلاد.
 
يحدث أن يتبدل الحال، فقد كان السكن قديمًا في الجحملية يعد حلمًا لكل إنسان يمني، بعكس اليوم صارت مأوى للمشردين، والهاربين من خطوط النار، والذين لا يجدون منطقة للعيش.. منازل متهالكة يخاف أن يقطنها غالبية مالكيها والناس.
 
قصف المنازل وتلغيم الأبواب
الجحملية.. أكثر الأحياء تعرضًا للدمار
شوارع الموت
 
في الحي، صادفنا محمد سليمان، أربعيني العمر، قضى سنوات وصفها بالتعب والاغتراب من أجل بناء منزله ذي الطابقين وسط الجحملية، ليكون مأوى لأسرته، وعلى العكس يظهر اليوم وقد حوله الحوثيون إلى ركام وأحجار.. "تصور عذابك يذهب فجأة.. وتتحول إلى نازح بلا منزل، هذا حالنا بالجحملية". 
 
وحدها الجحملية تتصدر قائمة الأحياء الأكثر تعرضًا للدمار في تعز، وربما في اليمن، تبعًا لما نالته من نصيب مضاعف من التدمير بالألغام، والقصف بالقذائف؛ إذ تشير تقارير حقوقية إلى أن ما يقارب 160 بناية في حي الجحملية، تعرضت للتدمير بفعل قذائف الحوثي، والألغام التي تسببت بتدمير منازل مدنية، ومحلات تجارية، ومؤسسات إعلامية وخدمية، ناهيك عن بعض المدارس الحكومية.
 
في حديث القيسي لـ"2 ديسمبر": يشير إلى أن مليشيات الحوثي مرّت بالجحملية، دمّرت منازل الناس بشكل شبه كامل، بل وأنهت المجتمع اليمني الذي تشكل بالجحملية وهدمت الفن المعماري.. "حينما تنظر إلى حي الجحملية، تدرك حجم ما أحدثه الحوثيون باليمن ككل".
 
من الجحملية، خرج الحوثيون؛ لكن خروجهم لم يكن نصرًا، كما يعتقده البعض؛ إنما كان بداية لسيناريو حلقة جديدة من حلقات الدمار، عنوانها الإبادة الجماعية.. إذ زرعت هذه المليشيا عشرات الألغام المضادة للدروع، والأفراد في شوارع الحي، فضلًا عن ألغام وضعها مقاتلو الحوثي بحذر خلف الأبواب، قاصدين قتل العائدين من النزوح.
 
"خطر.. منطقة ألغام" عبارة لا تزال مكتوبة على جدران المنازل، وبعض زوايا الجحملية.. هكذا باتت شوارع جحملية تعز توزع الموت بعد أن كانت بالأمس مليئة بالحياة، فالخراب والدمار هو كل ما تبقى بعدما مرت المليشيات من هنا.

أخبار من القسم

تطورات الساعة

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية