سادت لبعض الوقت مقولة غير تاريخية في الخطاب الإعلامي، كما أنها غير صائبة، فضلاً عن أنها تتضمن ضرباً من الاستعلاء.. تلك المقولة هي أن ثورة 26 سبتمبر 1962 هي الثورة الأم لثورة 14 أكتوبر 1963! وقد كنا من بين الذين حاولوا إظهار عدم تاريخية وعدم دقة هذه المقولة، إذ إن الإصرار على القول بثورة أم، وثورة بنت، يوجب القول إن ثورة 14 أكتوبر هي الأم، لأنها أقدم من ثورة 26 سبتمبر من الناحية التاريخية.

فثورة أكتوبر امتداد لثورة شعبية بدأت في العام 1838 ضد الطلائع الأولى للمحتلين البريطانيين.. في اليوم الأول مقاومة ارتفع أكثر من مائة شهيد على جبل صيرة وسفحه، بينما كانوا يقاومون بأسلحتهم البدائية طليعة المستعمرين.. على أن أولئك المقاومين الأوائل كانوا ينتمون إلى مختلف مناطق جنوب اليمن وشماله، وذكر المؤرخ سلطان ناجي أن أحد زعماء وائلة في صعدة قاد جيشاً من هناك بغية طرد (الكفار) من أرض اليمن، وبالفعل وصل إلى مع جيشه إلى المخا، ومنها إلى عدن، لكن البريطانيين أبادوا معظم أفراده الذين كانوا يزحفون على أرض مكشوفة، هي اليوم السبخات التي توجد عليها بحيرات البجع بخور مكسر، وقتل كثير منهم عند باب عدن القديم، وقبالة جبل حديد أثناء محاولات قبلها لتسلق الجبل، لكنها محاولات مدفوعة بغيرة وطنية، فاضطر الباقون منهم إلى الانسحاب إلى خنفر تحت نيران الأسلحة الحديثة التي زودت بها حكومة بريطانيا قواتها المحتلة.
 
إن واحدية الثورة اليمنية حقيقة تاريخية تؤيدها الوقائع، وهذه الواحدية تتعالى على مسألة الأم والبنت، فبين ثورتي 26 سبتمبر، و14 أكتوبر -على سبيل المثال- تعاضد وتضافر، وبذل بشري ومالي ولوجستي متبادل من الجهتين.. أبسط مثال لذلك أن حكومة النظام الجمهوري الذي جاءت به ثورة 26 سبتمبر قدم السلاح والمال لمؤازرة ثورة 14 أكتوبر، وبعد عام أو أقل من ثورة سبتمبر عين القائد الأول لجبهة تحرير جنوب اليمن قحطان الشعبي، وزير دولة في صنعاء لتنسيق عمليات الدعم لثوار 14 أكتوبر، ومعروف أن شماليين مثل سلطان الدوش، عبد الفتاح إسماعيل، راشد محمد ثابت، ومهيوب علي غالب الشرعبي... وغيرهم كثير، كانوا في مقدمة مناضلي الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل من الاستعمار البريطاني، وبعد الاستقلال أختير بعض منهم لمناصب قيادية حكومية وحزبية مرموقة، دون أدنى حساسية، بل إن حكومة الاستقلال اتخذت من يوم استشهاد مهيوب الشرعبي (واسمه الحركي عبود) في 11 فبراير/ شباط 1967، يوماً وطنياً للاحتفال بذكرى بالشهداء.. وعندما تعرض النظام الجمهوري في صنعاء لهجمة شرسة من جانب القوى الملكية التي حاولت استعادة الحكم الإمامي الذي طوحت به ثورة 26 سبتمبر 1962، جاء مئات المقاتلين المتطوعين من عدن ويافع وردفان والقطيبي والوهط، ومدن وأرياف جنوبية أخرى ليدافعوا عن النظام الجمهوري، وكان عمر الجاوي هو القائد الأبرز للمقاومة الشعبية المساندة للجيش النظامي، وأبلوا بلاءً وطنياً في سبيل فك الحصار عن صنعاء ومقاتلة الملكيين والمرتزقة الأجانب في حريب وحرض والحيمتين والجوف وصعدة.
 
هذا التضافر بين ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر يرتبط بقضية لها امتداد تاريخي، وهذه القضية هي الوحدة الطبيعية لليمن إنساناً وأرضاً، ففي مختلف المراحل التاريخية كانت وحدة اليمن هي القاعدة، هذه حقيقة ظلت قائمة في مختلف المراحل التاريخية، ففي عهد الرسول -عليه الصلاة والسلام- والخلفاء الراشدين كانت اليمن ولاية تابعة للمدينة، وفي عهد دولة بني العباس لما استقل محمد بن زياد باليمن عن دولة بني العباس، حكم دولة يمنية واحدة كانت معظم مخاليفها تدين بالولاء للعاصمة زبيد، والدولة الصليحية بسطت نفوذها من جبلة إلى أجزاء واسعة من شمال وجنوب وغرب اليمن، والدولة الزريعية التي اتخذت عدن عاصمة لها، كانت تدير أجزاء من الشمال، وكذلك كان الحال في عهود دولة بني رسول، والدولة الطاهرية، والدولة القاسمية.. نعم، لقد انقسمت اليمن في الماضي إلى دولتين، بل إلى مجموعة دويلات بسبب نزعات أنانية، وصراعات سياسية بين زعماء الجماعات السياسية القبلية والعائلية، لكن حدث ذلك في غفلة من التاريخ، وكانت تلك حالات استثنائية لم تدُم أكثر مما ينبغي لها. وفي أحلك المراحل التاريخية ظل الشعب اليمني موحداً، وبسهولة أسقط كل المحاولات التي كانت تُبذل في أوائل القرن العشرين من قبل الاستعمارين التركي والبريطاني معاً، ثم من قِبل المستعمرين البريطانيين في وقت لاحق، من أجل فرزه إلى شعبين، جنوبي وشمالي. وقلنا إنه أسقط تلك المحاولات بسهولة، بحكم تعامل أفراده في حياتهم اليومية، وفي تنقلاتهم وسكناهم، وفي ثقافتهم بشتى مركباتها، من اللغة إلى الرداء، مروراً باللهجات، والمظاهر الاحتفالية، وحتى العصبية الوطنية، مع وجود التنوع والخصوصية في بعض هذه المركبات الثقافية تنوع.

أخبار من القسم

تطورات الساعة

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية