ثمة في حياة الشعوب محطات وتواريخ استثنائية كونها تمثل منعطفاً في مسار الأحداث، وانتقالة في الواقع ينتقل فيها الشعب من مرحلة إلى أخرى، نتيجة للتغيير الجذري الذي يحدثه في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
 
وهكذا الثورات التي تعد أساس التغيير الجذري الديمقراطي الذي يظهر أثره على حياة الناس، وواقعهم المعيش، وتفكيرهم الذي يمارسونه، وقيمهم التي يؤمنون بها، وأسلوب حياتهم، وهذا ما يجعل تاريخ هذه الأحداث بمثابة مرحلة فارقة ينبغي التوقف أمامها.
 
وبالنسبة للشعب اليمني فقد أفاق صبيحة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 على "فجر يوم صبي" على حد وصف الشاعر والمؤرخ عبدالله البردوني، وهو اليوم الذي فجَّر فيه الثوار ثورتهم ضد نظام الاستبداد والكهنوت، معلنين عن طي وطمس ودفن النظام الإمامي، وقيام النظام الجمهوري ودولة الشعب.
 
كما أن يوم السادس والعشرين من سبتمبر كان يوم الميلاد الحقيقي لليمنيين، فيه وجدوا ذواتهم وإنسانيتهم وكرامتهم المهدرة، وفيه رفعوا رؤوسهم لأول مرة بعد أزمنة الذل والانكسار، ودفنوا الخرافات التي جاء بها الأئمة، وأعلنوا أن وجوههم لا تنحني إلا لخالقها، مؤمنين بالثورة كمنهج، وبفعلها الخلاق كأسلوب حياة.
 
وللسادس والعشرين من سبتمبر ميزته في مصاف الأيام، فهي كثورة لم تكن عسكرية صرفة، إذا تذكرنا أن تنظيم الضباط الأحرار ضم في عضويته مثقفين مدنيين كانوا على صلة بالعمل المدني "الحزبي والنقابي" وكان لهم دورٌ بارزٌ في حمل مشاعل التنوير والتثوير، وإحداث التغيير، والانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة.
 
ولم تكن الثورة ترفاً، أو عملاً فوضوياً، أو نزوة عابرة، بل كانت ضرورة وطنية لتغيير الواقع المظلم الذي فرضه الإماميون على الشعب اليمني، من خلال سياسة التجهيل والإفقار والاستعباد والإذلال، وإبقاء البلاد في كنف العصور المظلمة، منغلقة على العالم، باعتبار أن هذه السياسة هي ما يضمن بقاء الحكم في يد بيت حميد الدين، والتي ترى في الحكم اصطفاءً وحقاً إلهياً مقدساً تم حصره في هذا البيت بأمر السماء.
 
والثورة لم تكن فعلاً عابراً، ولا حدثاً فجائياً، بل جاءت نتيجة لتراكم محطات نضالية سطرها أبناء الشعب الذي حاول أن يثور في 48 وفي 55 رافعاً مطالب إصلاحية تتمثل بإقامة نظام حكم دستوري، أي أن المطالب الأولى للثوار تمثلت بإحداث إصلاحات في طبيعة النظام القائم، غير أن سياسة الأئمة جعلت من الثورة الشاملة قدراً لا بد من القيام به.
 
فالظروف التي كان يعيشها الشعب في ظل حكم الإماميين جعلت الحديث عن الثورة وضرورتها هو الحديث السائد بين أبناء الشعب الذين وجدوا في الثورة موعدهم مع الخلاص، الخلاص الذي بات حتمياً وضرورياً من أجل مغادرة اليمن لحقبة العصور الوسطى وعصور الظلام، والالتحاق بركب الدول والشعوب التي تعيش في القرن العشرين.
 
كذلك كان لحركة التحرر العربي التي بدأت مع قيام ثورة 23 يوليو في مصر أثرها في قيام ثورة سبتمبر، على اعتبار أن الفعل الثوري يتأثر ويؤثر في محيطه، ويتجلى هذا الأثر في تشابه ظروف الثورتين، وتشابه أهدافهما، بالإضافة إلى أن مصر كانت الداعم الأبرز لقيام ثورة 26 سبتمبر، وتجلت مظاهر هذا الدعم في الدعم المالي والعسكري والثقافي، واختلط الدم المصري باليمني في أنصع صور التداعي والتكاتف العربي الذي قدم ضريبة بلغت عشرات الآلاف من الشهداء المصريين.
 
وفي سياق الحديث عن الدعم المصري للثورة، ألا يكفي أن نعرف أن مصر كانت أول دولة اعترفت بالمولود الجديد الذي ولد في 26 سبتمبر، وأنه خلال أقل من 48 ساعة كانت طائرات مصر تهبط في اليمن حاملة الخبراء والعتاد العسكري لدعم الثورة، لتتوالى بعد ذلك قوافل الجنود والمدرسين والمثقفين، فيما يشبه التأكيد أن ثورة 26 سبتمبر قد ولدت من رحم ثورة 23 يوليو التي لم تكن ثورة مصرية بقدر ما كانت ثورة عربية ألقت برياح التغيير على الأمة العربية.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية