هذا الصرح العلمي الذي كان يعج بالحراك على كل المستويات: العلمية والثقافية، وفيه الطرقات والساحات والبوافي والاستراحات والمكتبات والأقسام وعكاظ والمباني الإدارية والمسجد والقاعات وقاعة الزعيم جمال عبدالناصر والعظيم البردوني والخالد علي عبدالمغني، كلها كانت تزدحم بالطلاب والأساتذة والإداريين والمراجعين والزوار... الخ، وإليه كان ينتمي كادر علمي معظمه من خيرة أبناء اليمن والبلدان العربية والشرق آسيوية ممن درسوا في مختلف بلدان العالم الغربي والعربي والآسيوي، هذا الصرح الذي كان وكان وكان...، صار اليوم مقبرة تصفر فيها ريح الجهل والتجهيل والمجهول، ويغرق في ظلمة حالكة من الخواء الروحي والفكري والبشري.
 
لقد تصحَّر كل شيء في الكلية، فتوحشت الجدران، وكشّرت الأرصفة عن أنيابها، وأطل الجوع من النوافذ والسطوح، وضلوع الأبواب تلاقت مع بطونها، والأشجار الواقفة منذ السبعينيات بكت، أسفًا، على الأشجار التي سقطت بفؤوس التاريخ، والبقرة الوحيدة التي كانت تسكن البدروم احتلب أردشير ضرعها حتى نزعه وصار الثدي كله في يده، وغدا ما ومن تبقى يبكي على أطلال الماضي القريب.
 
لقد غص الحلق، اليوم، بالبكاء واغرورقت عيناي بالدمع وأنا أرى طالبًا هنا على إفريز الدور الثاني وطالبة هناك في الساحة الخالية إلا من الوحشة. دخلت إلى القاعة فسمعت جدرانها تردد صدى الفراغ من طلبتي الذين أخرهم عني حابس الجوع، فأخذت أتحسس الكراسي وأخاطبها: ألم يكن يجلس عليك 360 طالبًا وطالبة في دفعتي؛ فلماذا لم يعُد بمقدورك استقبال خمس طالبات لا غير؟! تمازج الدمع بغناء عبدالمجيد عبدالله الذي كان ينبعث من هاتف ما، ولست أدري! هل لحظت الطالبات تلك الدموع الطافرات من عيني حين دخلن لحظتئذ أو لا؟!
 
لم يصدقني أحد قبل ست أو سبع سنوات؛ فقد قلت لزملاء كثر حينها: إن كليتنا لن تعمّر طويلًا.
قيل لي باستخفاف: لماذا؟
قلت: لأن ما لديهم لا يستطيع أن يصمد أمام ما تفعله أقسامها من تحريك للعقول حتى ولو كانت في أدنى مستوياتها.
 وقبل أشهر جاءني واحد من الزملاء مستغربًا مستنكرًا؛ ليقول لي بعاميته العذبة: يا اخي كيف بتقرا صفحة الغيب؟!
قلت له مستفهمًا بلهجتي: ما قد به؟
قال لي: إنه سمع من يفاخر أن أبواب جهنم ستغلق على يديه يقول باللهجة: "من اشتى يتعلم أوذاك الجامع ال... موجود". 
ضحكت ضحكة تخنقها المرارة وقلت له: الكلية باي باي.
ثم تركته ومضيت حينما بدأت حشرجة البكاء تخترق حنجرته.
 
* أستاذ في كلية الآداب جامعة صنعاء 
- من صفحته في الفيس بوك

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية