الدكتور صادق القاضي يكتب لـ " 2 ديسمبر " قراصنة.. في "طريق القدس"!
عندما رفع "بابا روما" "أوربانوس الثاني" شعار "تحرير الأراضي المقدسة". كانت القوى الأوروبية الكبرى جاهزة تماماً لتلبية دعوته المتفق عليها سلفاً، والانخراط في "الحروب الصليبية" لخدمة مصالحها الواقعية التي أشار البابا إلى بعضها في خطابه التاريخي الشهير أمام "مجمع كليرمون" 1095م.
كان الغرب المسيحي يعيش، حينها، أوج أزماته السياسية والدينية والاقتصادية والأمنية.. ويبحث بإلحاح عن طريق للخروج من هذه الأزمات الداخلية المستفحلة، وقد وفر له البابا هذا الطريق "الطريق إلى القدس".
حسب خطاب البابا يمكن لقادة أوروبا عبر طريق القدس توفير وطن بديل وغني يستوعب فائض الكثافة السكانية الفقيرة التي تكتظ بها دول كفرنسا. فـ"أرض كنعان تفيض لبناً وعسلاً"، كما يمكنهم حلحلة مشكلة البطالة ودورها في تفشي العنف والجريمة والفوضى في بلدانهم، فـ"الحل هو تحويل السيوف لخدمة الرب: "دعوا اللصوص يصبحون فرساناً".!
بجانب ذلك. كان دعم بيزنطا في مواجهة تهديد السلاجقة، والبحث عن طريق تجاري لأوروبا عبر البحر الأحمر إلى الهند، فضلاً عن رغبة البابا بضم الكنيسة الشرقية إلى سلطته البابوية ليصبح "رئيس أساقفة العالم".. تشكّل الأجندة الحقيقية للحملة الصليبية الأولى (1096م–1099م).
لم يكن هذا البابا أول من رفع شعاراً دينياً لقضية دنيوية خالصة، ولا آخر من كان يتحدث عن القدس وعينه على أشياء كثيرة أخرى، وقد ظل "الطريق إلى القدس" بعده لفترة طويلة وسيلة جذابة ثابتة لغايات تغيرت مراراً بتغير الحملات الصليبية وأهدافها في كل مرة.
في الحملة الصليبية الرابعة (1201: 1204)، رفعت روما شعار: "الطريق إلى القدس يمر عبر مصر". كانت تريد ازدراد مصر هذه المرة، لكن، ولأن مصر كانت عصية على روما أكثر من بيزنطا، تغير شعار الحملة إلى: "الطريق إلى القدس يمر عبر بيزنطا". وبعد سقوط بيزنطا بيد روما تبيّن جلياً أن البابا كان يقصد "الطريق إلى بيزنطا يمر عبر القدس"!
على الجانب الآخر كان الأيوبيون وهم يشكلون دولتهم الفتية الصاعدة، يفكرون بـ"الطريق إلى القدس"، و"الطريق من القدس" معاً، ويبدو أن الاستيلاء على مصر والشام والحجاز واليمن والنوبة، وتوحيدها في دولة قوية عظيمة واحدة كان ضرورياً لمواجهة الحملات الصليبية، وقد نجح "صلاح الدين الأيوبي" في عبور الطريقين.
لقد أصبحت تلك الحروب القروسطية، جزءاً ساخراً من الماضي الديني والسياسي للغرب الحديث الذي لا يمكن تبرئته من جعل تلك الكوميديا السوداء جزءاً من الحاضر العربي، فهو بدوره في زرع الكيان الإسرائيلي في الجسد العربي، يكون قد أعاد العرب إلى نفس دوامته الصليبية القديمة، وزج بهم في ثقب أسود لا حدود لكلفته البشرية والمادية، وإشكالاته السياسية والدينية.
لا شك في عدالة القضية الفلسطينية. لكن "الطريق إلى القدس" ليس محفوفاً دائماً بحسن النوايا، وفي مقابل المحاولات العسكرية والمبادرات السياسية العربية والإسلامية والدولية النزيهة التي بذلت وما زالت تبذل في سبيلها، أصبحت هذه القضية في سياقات كثيرة أشبه بـ"قميص عثمان" "كلمة حق يُراد بها باطل".
ربما بدأ الأمر ببداية نكبة الاحتلال، لكن التوظيف الانتهازي لمظلومية القدس تصاعد باطراد ليصبح ظاهرة بلغت ذروتها الهزلية الخطرة خلال حرب الخليج الأولى"1980 : 1988م". كما لو أن النظامين في إيران والعراق وجدا في تلك الحرب فرصة ذهبية للتنصل من مسئوليات والتزامات داخلية حرجة. ليس فقط بحجة الدفاع عن بلاديهما، بل بالجهاد من أجل تحرير الأراضي المقدسة، ما يمكّنهما من الاتّكاء على أكذوبة طويلة الحبال.!
ومع أن الزعيم الشيعي "آية الله خميني"، اعتبر تلك الحرب مفروضة عليه، وأطلق عليها اسم "الدفاع المقدس"، لكنه في المقابل وضع لها أهدافها الجهادية الخارجية، وصاغ لها شعارها الهجومي المخيف: "الطريق إلى القدس يمر عبر كربلاء". وهو نفسه الشعار الشهير للحملة الصليبية الرابعة. لكن بوضع كربلاء بدلاً من مصر.
توجهت إيران للبحث عن طرق أخرى تؤدي إلى القدس. منها بيروت ودمشق وصنعاء. ونجحت في وقت مبكر بالوصول إلى لبنان، وتكبيل القرار هناك بمزاج الملالي، وجعل بيروت حديقة خلفية لقصر "آية الله" في طهران.
ومن بيروت صرح السيد "حسن نصر الله": "الطريق إلى القدس يمر عبر القلمون والزبداني ودرعا وحلب".! هذه السنوات الثورية الأخيرة مكنت إيران من التدخل بل والدخول بشكل أعمق ومباشر في سوريا، بحجة دعم نظام الأسد حليفها التقليدي، أو بحسب رأي حسن نصر الله. لأن سوريا محطة في الطريق إلى القدس!
على الصعيد اليمني، صرح "علي أكبر ولايتي" مستشار خامنئي بأن "الطريق إلى القدس يمر عبر اليمن". وقد برهنت المليشيات الحوثية عملياً على فداحة التبعات الكارثية لخارطة الطريق هذه التي رسمتها إيران لليمن، وأوصلتها إلى البوابة الخلفية للجحيم!
لا أسوأ من جعل الطريق إلى الله طريقاً إلى السلطة أو الثروة أو النفوذ، ولا أخطر من توظيف القضية الفلسطينية وقدسية القدس بطريقة انتهازية للتلاعب بمشاعر البسطاء، وابتزاز الأنظمة، وخدمة أجندات قذرة ومشاريع سياسية مشبوهة تلوث البيئة الدينية والسياسية والفكرية، وتزيف القضايا الحقيقية لشعوب ودول المنطقة.
اليمن ولبنان وسوريا والعراق ومصر وإيران ودول الخليج.. اليوم ودائماً، بحاجة ماسة لخارطة طريق للخروج من أزماتها، لا أن تكون هي جزءاً من خارطة طريق إلى بلاد أخرى حتى القدس.
القدس نفسها وبدورها تحتاج إلى خارطة طريق للخروج من وضعها الاستثنائي الصعب، لا أن تكون طريقاً ذرائعياً لأنظمة شمولية تسعى من خلال قضيتها العادلة للاستحواذ بطريقة غير عادلة على نفوذ ومصالح مشبوهة في بلدان أخرى.
لا تتوقف الظاهرة على مستوى الأنظمة، بل تتجسد بدرجة أولى على مستوى التنظيمات السياسية وجماعات الإسلام السياسي، وهو ما تطرق إليه "محسن محمد صالح"، في كتابه "الطريق إلى القدس"، وهو يرصد "رصيد التجربة الإسلامية على أرض فلسطين" من ناحية حجم الثروات الهائلة والمصالح المادية والسياسية والشعبية المهولة التي استحوذ عليها الإسلاميون عبر هذا الطريق الملائكي المحفوف بالشياطين والدراكولات والقراصنة..
أخيراً: ماذا تحقق للقدس نفسها من كل ذلك، طوال كل هذا التاريخ.؟!
لا شيء مهم.
بل يبدو أن "القداسة" جلبت الكثير من التعاسة والويلات والحروب.. على "القدس"، فقد تعرضت هذه المدينة المنحوسة "للتدمير مرتين، وحوصرت 23 مرة، وهوجمت 52 مرة، وتمّ غزوها واحتلالها وفقدانها مجددًا 44 مرة". خلال تاريخها الكارثي الطويل.