للذواكر المثقوبة: الوصاية.. بين سبتمبر الثورة والنكبة
تربط مليشيا الحوثي تاريخ ما تسميه ثورتها بيوم اقتحامها صنعاء في 21 سبتمبر 2014، وتردد على طول خط خطابها السياسي والإعلامي والثقافي أن الهدف العام لثورتها هو استعادة السيادة اليمنية وتخليص البلد من الوصاية الخارجية. وبدون انفعال مع أو ضد دعونا نطرح الموضوع على طاولة النقاش.
لنرجع إلى الوراء بضع سنوات، وتحديدا إلى ما قبل اقتحام العاصمة بشهور، لنجد أن أهداف الحراك الحوثي المعلنة مرارا وتكرارا من قياداته وعلى رأسها زعيم المليشيا المدعو عبدالملك الحوثي، انحصر في ثلاثة مطالب، الأول هو التراجع عن الجرعة السعرية للمشتقات النفطية، الثاني كان تغيير حكومة باسندوة، أما الثالث فهو تنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار الوطني.
كانت الأهداف الثلاثة هي الخطوط العامة لما يمكن تسميته مجازا برنامج الثورة الحوثية، ولم يكن بينها ما يتعلق بالسيادة أو الوصاية، وبصرف النظر عن سذاجة البرنامج من الناحية السياسية، فقد كان خطابا شعبويا حقق تعاطفا جماهيريا من اليمنيين، ولنا بعد أكثر من سبع سنوات أن نرى واقع الحكومة الحوثية مقارنة بحكومة باسندوة، وأسعار المشتقات النفطية حتى مع احتساب فارق سعر صرف العملة المحلية بالنسبة للجرعة وقتها، أما مخرجات الحوار فالانقلاب الحوثي واضح ليس عليها فحسب، بل وعلى القيم والسياسات الحديثة التي راكمتها البلاد في مدى زمني يزيد على نصف قرن.
واقع الحقيقة أن السيادة والوصاية لم يكونا شاغلا أو هدفا معلنا للثورة الحوثية ( أو النكبة كما يسميها معظم اليمنيين)، كما كانت هدفا من أهداف ثورة 26 سبتمبر أو 14 أكتوبر منذ اليوم الأول لإعلانهما، ولا نتجاوز بالاعتقاد أن بقية أهداف هاتين الثورتين هي ضمانات أو قاعدة تحتية لتحقيق هذا الهدف العام.
الحاصل أن التركيز على السيادة والوصاية في الخطاب الحوثي جاء بعد تدخل التحالف العربي بطلب السلطة الشرعية اليمنية، ما يعني أنهما أتيا كأداة شعاراتية تعبوية لتبرير العبث الحوثي بدماء ونماء أبناء اليمن، وأمن واستقرار الإقليم.
الآن، دعونا نناقش باختصار مفهومي السيادة والوصاية، إذ الأول يشير إلى أن تكون الدولة الممثلة بالسلطة هي صاحبة الكلمة الفصل والقرار الأول على الإقليم الذي تحكمه، فهل هذا واقع عمليا؟ الجواب: ليس تماما، أما لماذا؟ فلأن أسبابا تاريخية واقتصادية وغيرها حتمت إقامة كل دولة علاقات مع دول أخرى، وتطورت في العصر الحديث إلى أن تؤطر هذه العلاقات في قوانين ومؤسسات دولية وإقليمية، كالأمم المتحدة مثلا، هذه العلاقات فرضت على الجميع، من الناحية النظرية على الأقل، التنازل عن قدر من السيادة لصالح تلك العلاقات، وبعبارة ثانية تكييف التشريعات والقرارات الداخلية مع متطلبات الاتفاقات والمعاهدات الخارجية.
بالنسبة للوصاية، يمكن وصفها بأنها علاقة بين دولتين تقوم على هيمنة إرادة الدولة الأقوى على قرارات الدولة الأضعف، إذن فهي اختلال في التكافؤ بينهما.
في واقع العلاقات الدولية يمثل الإجحاف في حق الدولة الضعيفة مقابل الدولة القوية مسارا سائدا، والمشكلة ليست هنا، وإنما في مدى هذا الإجحاف ومساحة الهيمنة على قرارات الدولة الأضعف.
بالانتقال إلى الحالة اليمنية، عملت الأنظمة الجمهورية عقب ثورة 26 سبتمبر على تهيئة الشروط الموضوعية، الأدنى على الأقل، لتنفيذ ما تضمنه الهدف الأول للثورة (التحرر من الاستعمار)، من خلال قطع أشواط متفاوتة في تطبيق أهدافها الرديفة الأخرى التي تشكل في حقيقتها اشتراطات وضمانات للهدف الأول، داخليا من بناء المؤسسة العسكرية والأمنية ورفع مستوى الشعب في جوانب حياتية مختلفة وإنشاء مجتمع ديمقراطي وتحقيق الوحدة الوطنية، وخارجيا السير في إطارات المجتمع الدولي.
بالتأكيد كان هامش المناورة للدولة اليمنية في العلاقات الدولية صغيرا، بحكم الوزن السياسي والاقتصادي والعسكري لها على سلم ترتيبات القوة العالمية، وهذا ينطبق على معظم بلدان العالم، لاسيما ما كانت تعرف بدول العالم الثالث أو تعرف اليوم بدول الجنوب، إضافة إلى أن أهداف ثورتي 26 سبتمبر و 14 أكتوبر، شبه المتطابقة بينهما، ذات أفق متواصل في عملية البناء، وبالتالي لم يكونا قد اكتملا، كميا وكيفيا، بالنظر إلى الطبيعة المستمرة لبعضها، على سبيل المثال بناء جيش قوي يحتاج إلى عملية مستمرة كون التطورات خصوصا في الجوانب التسليحية واللوجستية والتكنولوجية تتلاحق يوميا، أو رفع مستوى الشعب اقتصاديا فإنه يتطلب الملاحقة المتواصلة للتطورات على المستوى العالمي مع تلبية الاحتياجات المتوالدة يوميا نتيجة تطور أذواق السكان ونموهم.
وإذا أردنا الإنصاف، نستطيع القول إن هامش المناورة الدولية لليمن فاقت الإمكانات الفعلية للبلاد في عهد الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، إلا أنها تقلصت منذ أزمة 2011، وانهارت تقريبا منذ الثورة الحوثية، وسيستمر تجرع اليمنيين، دولة وشعبا، الثمن خلال سنوات وربما عقود بعد انتهاء الحرب الدائرة حاليا.
في أزمة 2011 وما تلاها أسهمت قوى الأزمة، بوعي أو بدون وعي، في إضعاف وإيقاف نمو أهداف ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر، ما انعكس في تضاؤل استقلالية القرار اليمني، والنكوص به بعد أن كان حقق تقدما كبيرا، وأيضا انتقاص مساحة السيادة بمفهومها المعاصر. فما موقع الحوثيين من عملية الإضعاف ومن ثم حقيقة موقفهم من ادعاءات السيادة والوصاية؟
كمدخل، ينبغي أن نلفت إلى أن ضجيج الحوثيين عن السيادة والوصاية ينصرف بصورة أساسية إلى المملكة العربية السعودية إقليميا، والولايات المتحدة الأمريكية دوليا. وفي حقيقة الأمر أن الخطاب الحوثي المعلن تجاه الأولى كان يذهب إلى الاستمالة وجلب العطف كدولة جارة، وإن كانت الأفعال مناقضة، غير أن الحوثيين انخرطوا في مؤتمر الحوار والعملية السياسية، بشكل أو بآخر، منذ 2011 حتى 2014، وكان رئيس مجلسها السياسي وقتها صالح الصماد مستشارا لرئيس الجمهورية، وكل سلوكها في هذا الاتجاه مبني أساسا على المبادرة الخليجية التي تمثل السعودية فيها الفاعل الأكبر.
أما الولايات المتحدة، فاقتصر التحرر الحوثي من الوصاية المزعومة لها، في ترديد شعار الصرخة المتضمن "الموت لأمريكا"، بينما حرصت المليشيا، وما زالت، في طرح نفسها على أنها الخادم المجاني في حرب القاعدة، وتجتهد في تقديم الأدلة على أنها مشاركة في الحرب الدولية التي تقودها الولايات المتحدة ضد التنظيم المتطرف. كما تردد المليشيا أن هناك قوات أمريكية وبريطانية على الأرض اليمنية، في حين لم نر أي استهداف لها كما نرى الاستخدام المكثف للصواريخ والطائرات المسيرة في ضرب اليمنيين، ولعلنا نتذكر كيف تبرأت المليشيا بإلحاح من استهداف سفينة أمريكية بالبحر الأحمر في أكتوبر 2016.
أدت أزمة 2011 إلى إضعاف مسار أهداف ثورة 26 سبتمبر، فيما أسفر النكوص عنها مع السيطرة الحوثية على صنعاء وأغلب المحافظات اليمنية في 2014 إلى الإجهاز على المؤسستين الأمنية والعسكرية، والإيقاف التام لعملية البناء والديمقراطية، وما تبعها من تقسيم واقعي لليمن أخل بخطورة بالغة بهدف الوحدة الوطنية، وقدم للعالم صورة جديدة لليمن تخرجها عن ممشى الهدف السادس المتعلق بالتعايش والسلام الدولي.
جرّ العبث الحوثي بأهداف ثورة 26 سبتمبر إلى انهيار حقيقي في القوة اليمنية جعل القرار اليمني ينتقل، عمليا، إلى عهدة مجلس الأمن ومن ورائه القوى الكبرى وعلى رأسها أمريكا، والمؤسسات الدولية، وأوقع البلاد تحت طائلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وهو الباب الواسع للتدخلات الخارجية، وورط البلاد في حرب داخلية وخارجية كلفتها الدماء والدمار والانهيار في مختلف المجالات، وجعلتها فاقدة القرار وواقعة فعلا تحت الوصاية الخارجية متعددة الأطراف، وذهبت بسيادتها إلى أن تكون مجرد حبر على ورق.
وفوق ذلك، وإذا افترضنا جدلا أن اليمن كان واقعا تحت وصاية جاء الحوثي ليحرره منها، فقد كانت في أفضل أحوالها بين نُخب سياسية، لا يجد المواطن في الشارع اليمني آثارا مباشرة لها على الأرض، بعكس ما يلاحظه اليوم بوضوح كبير من تبعية فجة لنظام طهران تظهر حتى في تفاصيل حياته اليومية، وبات رجل الشارع معايشا لصور القادة الإيرانيين وقادة المليشيات التابعة لها، في المدن اليمنية وهو مالم يكن مألوفا من قبل، ولم يعد يفرق بين قنوات "العالم، والمنار، والمسيرة" وأصبح يرى بث وسائل الإعلام الحوثية لتجوالات الحاكم العسكري الإيراني بصنعاء، الموصوف بأنه سفير من قبل التابع الحوثي والمتبوع الإيراني، في مقار الحكومة اليمنية وبرفقته حراسات عادة ما تستخدم لرؤساء الدول.
ومن المفارقات الغريبة في قضية الوصاية الخارجية، أن العادة أن يتحكم القوي بقرارات الضعيف، إلا أن المليشيا الحوثية، قبلت أن تكون كذلك تحت وصاية حزب الله اللبناني، الذي أوكلت له طهران الكثير من عناصر الملف اليمني، رغم أن فارق القوة في أغلب الجوانب يرجح الكفة الحوثية، لكنها شاءت أن تكون ذيلا لذيل.
بنظرة للمستقبل، عقب انتهاء الحرب، هل ستكون اليمن على كافة المستويات كما كانت في العام 2010؟، غالبا، لا، لأن البلد سيخرج منهكا، سواء بقي الحوثيون أم ذهبوا، ولنا أن نضع تصورات عن كمية الأموال المطلوبة لإعادة الإعمار وإزالة آثار الحرب، واستئناف العملية التنموية، وعن كفاية الإمكانات الداخلية لإعادة اليمن إلى وضع 2010، ما يضع البلاد في دائرة الحاجة الماسة للمساعدات الخارجية من الدول والمؤسسات الدولية على السواء، ما يعني بعبارة أخرى وضعه تحت وصاية اقتصادية ضاغطة تفتح الباب واسعا لوصاية سياسية قد تستمر سنوات أو عقود، بعكس ما كان من تقدم حاصل قطعته الأنظمة الجمهورية عبر تنفيذ أهداف 26 سبتمبر، التي تحاول وأدها نكبة 21 سبتمبر وبذات الوقت تتبجح بالتحرر وهي تلغي شروطه وضماناته المتمثلة في أهداف 26 سبتمبر.