نعم للوسطية لا لـ "ملازِم" التطرف.. رسالة اليمنيين في تشييع العلامة العمراني
تزاحم اليمنيون بالعاصمة صنعاء في حشد غفير لتشييع فقيد اليمن عالم الدين المجتهد القاضي محمد بن إسماعيل العمراني، واكتظت مواقع التواصل الاجتماعي بصوره وذكر مآثره، والإشادة بمنهجه الوسطي المعتدل.
بقدر ما حمل احتشاد اليمنيين وإجماعهم، عدا أتباع مليشيا الحوثي، من حزن ممزوج بالحب والتقدير للفقيد، بقدر ما مثل استفتاء شعبيا بعث برسالة واضحة تؤكد وقوف الشعب اليمني مع رموز الاعتدال، وتعبر عن الشخصية اليمنية الميالة للوسطية بعيدا عن التطرف في كافة أشكاله، بما فيها الديني والمذهبي والسياسي.
من هو" القاضي العمراني"
القاضي العمراني من مواليد العاصمة صنعاء، العام 1921، تلقى علوم الدين واللغة في سن مبكرة، ساعده في ذلك أنه ينتمي لأسرة علم حيث كان جده محمد بن علي العمراني أبرز تلاميذ العالم الديني محمد بن علي الشوكاني أحد أكبر علماء العالم الإسلامي في القرن الثالث عشر الهجري.
درس في عدد من المدارس الملحقة بالمساجد في صنعاء، بينها الجامع الكبير، وعلى يد كثير من علماء اليمن حينها مثل القاضي يحيى الإرياني والد رئيس الجمهورية الأسبق عبدالرحمن الإرياني، ليمارس التدريس وهو في الخامسة والعشرين من عمره في المدرسة العلمية بصنعاء، وتدرج في العلم حتى أصبح أشهر علماء اليمن المعاصرين، ويحظى بتقدير العلماء وطلبة العلم الديني في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
اشتهر القاضي العمراني بزهده واعتداله وظرفه وغزارة علمه، ومثل حالة دينية عابرة للمذاهب، يتتبع الدليل ويميل مع ما يعتقده حقا دون تعصب أو تقليل من آراء الآخرين، وعلى منوال جده محمد العمراني وشيخه الشوكاني تمتع العلامة محمد بن إسماعيل العمراني باحترام مختلف الأطياف الدينية اليمنية، ورغم نشأته وأسرته في بيئة زيدية مذهبيا، إلا أنه مثل جده وشيخه جاوز المذهبية وحاز احترام أتباع المذهبين الشافعي والزيدي السائدين في اليمن.
لم يتول َ القاضي العمراني منصب مفتي الديار اليمنية رسميا، إلا أن اليمنيين اختاروه لهذا المنصب شعبيا، وفي المجال الرسمي شغل الفقيد في عهد الرئيس السابق علي عبدالله صالح عدة مناصب منها رئيس مكتب رفع المظالم إلى رئيس الجمهورية، وعضو بلجنة تقنين الشريعة الإسلامية في برلمان الشطر الشمالي قبل الوحدة.
ركل "الملازم" الحوثية
في السادسة صباح الاثنين نعى موقع القاضي العمراني على "تويتر" الذي يديره أحد أولاده، وفاته، والإعلان عن موعد الدفن عقب صلاة الظهر من ذات اليوم.
ومع ضيق الوقت وبدون أي تنظيم أو تحشيد توافد عشرات الآلاف إلى جنازة الفقيد، غير امتلاء مواقع التواصل الاجتماعي اليمنية بخبر الوفاة والحزن والترحم وذكر مناقبه، واعتُبر ذلك متضمنا رسالة ركل لملازم وأفكار وتطرف وطائفية مليشيا الحوثي.
الإعلامي محمد أنعم قال إن الجماهير "خرجت عن بكرة أبيها عفوية لتوديع علم من أعلام العلم والاجتهاد في اليمن.. العالم الذي لم ينحنِ أما التجبر والطغيان السلالي رسالة واضحة".
أما الأكاديمي والسياسي محمد جميح فكتب على صفحته الرسمية في تويتر " عشرات الآلاف شيعوا فقيد اليمن والأمة العربية والإسلامية اليوم بصنعاء رغم ضيق الوقت وعدم الإشعار وحرص الكهنة ( الحوثيين) على تهميشه".
ويعتقد يمنيون أن الفقيد حرص على بعث رسالة أخرى لمليشيا الحوثي بوصيته أن تتم الصلاة عليه في مسجد الزبيري، المسمى باسم محمد محمود الزبيري أحد قادة أهم ثورتين معاصرتين ضد الحكم الإمامي الذي تشكل المليشيا امتدادا له ومحاولة لإحيائه.
وفي الصدد نقل مركز نشوان الحميري على صفحته القول " للزبيري رمزية لا تخطئها بصيرة..رحمه الله (العمراني) فقد أوصل رسالته لمن يتشككون موقفه بأنه جمهوري قح وزبيري حيا وميتا".
الحوثيون.. مزايدة وضيق
عرف اليمنيون موقف مليشيا الحوثي التابعة لإيران من العلامة الفقيد محمد بن إسماعيل العمراني، إذ كان موقفا سلبيا ومعاديا منذ اقتحامهم العاصمة صنعاء، ويتذكرون قبل سنوات مصادرة مكتبته والسعي لإحراقها، ومنع بث فتواه في وسائل الإعلام خلافا لعرضها قبلا خلال ثلاثة عقود في برامج تلفزيونية وإذاعية وصحف.
سعت بعض قيادات المليشيا إلى إظهار التعاطف مع الحزن العارم على رحيل القاضي العمراني، وحضرت بعضها جنازته إلا أن وكالة "2 ديسمبر" تتبعت وسائل إعلام ومنصات تواصل اجتماعي للحوثيين، ووجدت تعازٍ على استحياء، بينها تعزية مقتضبة لزعيم المليشيا المدعو عبدالملك الحوثي لم تتطرق إلى مناقب العالم الراحل واكتفت ببعض كلمات نشرها الإعلام الحوثي " عن خالص العزاء والمواساة لأسرة الفقيد"، بعكس الإطناب في برقية عزاء للحوثي في مصرع قائد فيلق القدس الإيراني الهالك قاسم سليماني مطلع العام الماضي.
وفيما اقتصر ما يسمى "رابطة علماء اليمن" على تعزية شديدة الاختصار أصدرت مؤسسات دينية في العالم الإسلامي بيانات نعي للفقيد العمراني بينها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أشار فيه إلى أن الراحل كان " دائم التحذير من التفرقة والتمذهب، وينادي بأعلى صوته ألا إن من أوجب الواجبات في هذا العصر وحدة الصف والجماعة، وإن التفرقة من أقبح البدع وأشنعها".
وتجاوز الحوثيون الموقف السلبي إلى سلوكيات عدائية تجاه الفقيد حتى في موته، حيث تداول يمنيون على مواقع التواصل أن مليشيا الحوثي منعت دفن العلامة الراحل في مقبرة خزيمة وسط العاصمة، ما ألجأ ذويه إلى تغيير المكان إلى مقبرة الدفعي، وهذا ما يؤكده نشر منصة القاضي العمراني بتويتر أنه أوصى بدفنه في خزيمة.
ونقل آخرون، كشهود عيان، عن محاضرة في أحد مساجد صنعاء مساء ذات يوم تشييع العمراني، أبدى خلالها الواعظ الحوثي امتعاضه من الحشود التي حظرت الجنازة.
وسبق أن كتب أحد القيادات الإعلامية الحوثية في صفحته على تويتر بمسمى "الشاعر الجرموزي" أن القاضي العمراني من علماء السوء لأنه يحرم "يوم الغدير ويعتبره بدعه" وقال الجرموزي "أعوذ بالله من خاتمة السوء".
التحامل الحوثي على العلامة العمراني بمقابل الالتفاف الشعبي بمناسبة وفاته، جعل المثقفين والمتابعين يقرأون حشود الفضاء الواقعي والرمزي لتشييعه على أنها رسالة ترفض التعصب والتطرف الحوثي، " لم تكن مجرد جنازة! كانت استفتاءً شعبياً ضخماً. صنعاء الحقيقية تكشف عن وجهها في جنازة القاضي العمراني اليوم! صنعاء الاعتدال لا التعصب.. صنعاء اليمن الكبير لا الصغير بالمناطقية والسلالية!". حسب ما عبر وزير الثقافة الأسبق خالد الرويشان.
