(ذاكرة أسير).. من عزومة غداء إلى زنزانة مظلمة… مأساة "جندي خفر السواحل" في معتقلات الحوثي
عندما كان الأسير فهيم المعقري في سجون مليشيا الحوثي الإرهابية -وهو أحد منتسبي المقاومة الوطنية خرج من المعتقل في صفقة تبادل أسرى- عاش فصولًا من قصص التعذيب والانتهاكات التي تعرض لها آخرون شاركوه الزنازين المظلمة، أغلبهم مختطفون جرى اقتيادهم من منازلهم أو مقار أعمالهم أو حتى من الشوارع.
وقد وثق المعقري تلك القصص في ذاكرته ليكشف عنها اليوم حصريًا لـ"وكالة 2 ديسمبر"، ضمن سلسلة شهادات تحكي على لسان أصحابها معاناة الأسرى والمختطفين في معتقلات المليشيا.
بداية الحكاية:
في ظهيرة خانقة بمدينة الحديدة، لم يكن "أمير" (اسم مستعار) يتوقع أن تتحول مكالمة هاتفية عابرة إلى بداية رحلة عذاب امتدت ثلاث سنوات في سجون مليشيا الحوثي الإرهابية.
الشاب الثلاثيني، ابن مديرية التحيتا جنوبي الحديدة، وموظف خفر السواحل منذ 2009، يروي قصته كما نقلها المعمري قائلا: "أوهموني أنهم سيعطوني كروت للصيادين في منطقة المجيلس، لأني كنت مندوب الترقيم في مديرية التحيتا. كان الاتصال ليلًا من ضابط في خفر السواحل بالحديدة".
لم يكن يعلم أن المكالمة مجرد فخ، ضمن ما أسماه "المصيدة الحوثية" التي استهدفت ضباط وجنود الجيش المناهضين للانقلاب. ذهب أمير بسيارته إلى الحديدة – التي تمت مصادرتها – متجهًا إلى مؤسسة الاصطياد السمكي، غير مدرك أن الضابط المتواصل معه كان يعمل لصالح المليشيا.
العزومة… بداية الأسر
يقول أمير: "انتقلت من سيارتي إلى سيارته كما طلب مني من أجل توقيع الأوراق اللازمة. وفي الطريق كان الضابط يتواصل مع آخرين لترتيب عملية اختطافي".
وعندما حاول مقاومة شكوكه، جاءته اللحظة الحاسمة: ضابط الحوثيين تحجج بأن المطابع مغلقة، وبعد دقائق توقفت حافلة معكسة مليئة بالمسلحين يتقدمهم شخص يُدعى "أبو فخر الدين". قالوا له إنهم قادمون لأخذه إلى ضيافة غداء، ولم يكن أمامه سوى الامتثال.
يتابع أمير " العزومة كانت في شقة متواضعة بشارع المطار بالحديدة. بعد ساعات، أدركت أنني في سجن وليس ضيافة". طرق الباب ليسأل عما يحدث له، فجاءه الرد: "اجلس، أنت في ضيافة السيد".
التعذيب الأول
مع إشراقة اليوم الثاني بدأ مسلسل العذاب "دخل علينا شاب لا يتجاوز 17 عامًا ولطمنا كفًا" لم يتمالك أمير نفسه فرد بنفس الطريقة، لكنه دفع ثمنًا باهظًا "دخل سبعة أو ثمانية مسلحين، ضربوني حتى فقدت الوعي، سمعتهم يقولون: الرجال فارق الحياة، ثم سكبوا عليّ ماءً حتى صحوت".
ثمانية أيام قضاها في شقة الحديدة تحت رحمة سجانيه، كل يوم يمر عليه مع جلاد جديد يحمل اسمًا مختلفًا: "أبو صالح، أبو صلاح، أبو معمر"، ولكل واحد أسلوبه الخاص في التعذيب.
رحلة ما بعد الفخ
بعد شهر ونصف، وكانت يده اليمنى قد انكسرت من التعذيب والتعليق، نُقل أمير وزملاؤه إلى سجن الأمن السياسي. لم يتبق لديهم سوى ملابسهم الداخلية، ومعها آمال كاذبة بالإفراج. "بعد شهر وخمسة عشر يومًا حلقوا رؤوسنا وأخرجونا مربطين ومعصوبي الأعين"، يروي أمير.
في الطريق، أوهموهم بأنهم سيُطلقون سراحهم في بيت الفقيه ليلتقيهم أهاليهم، لكنهم واصلوا الرحلة نحو صنعاء.
المرارة في سجون صنعاء
ساعات طويلة قطعت الحافلة حتى وصلت بهم إلى سجن شملان بصنعاء، حيث قضوا عامًا ونصف بملابسهم الداخلية. أمراض الفطريات انتشرت بينهم، كما تضاعفت أمراض أخرى كالسكري، وسط حرمان متعمد من العلاج.
يقول أمير "أبو ذو الفقار، مشرف السجن، كان يسخر مني ويقول: بعد الضربة الثالثة بالكيبل ما عاد بتحس بالألم". أما طعامهم فكان مهينًا: "كدم متعفن وجبنة مرة في الأسبوع، وفي يوم الجمعة كدم ومرق بماء متغير اللون".
أكثر من 25 مختطفًا عاشوا في عزلة انفرادية لا تتجاوز المتر والنصف. لم تعرف أسرة أمير مصيره لعام ونصف كامل، حتى سمحوا له بإجراء أول اتصال لم يتجاوز ثلاث دقائق. لكن المكالمات ظلت مراقبة، مسموح فيها فقط بعبارات معينة: "كيف حالكم؟ أنا بخير، الحمد لله".
ويضيف: "كل خمسة أو ستة أيام يتوقف الضرب قليلًا حتى يهدأ الجسد، ثم يبدأ من جديد. التحقيقات لا تنتهي، ومعها التبصيم على عشرات الأوراق بلا علم بمحتواها".
حتى عندما أصيب بفيروس كورونا لم يُسمح له بالعلاج أو اللقاح. وخلال ثلاث سنوات كاملة، لم يتعرض للشمس سوى مرات معدودة.
محاكمة باطلة ومساومة قذرة
بعد انتهاء التحقيقات، مثل أمير أمام المحكمة الحوثية بتهمة باطلة هي "رصد المواقع". محاميه المعين من المليشيا أخبره بأن الحكم سيكون الإعدام.
لكن خلف الكواليس بدأت المليشيا المساومة: "قالوا لي تواصل بأهلك يدبروا 9 ملايين ريال مقابل الإفراج". باعت أسرته كل ما تملك، حتى ذهب زوجته، لكن الصفقة كانت مجرد خدعة، ولم يطلق سراحه.
انتهاكات مذهبية وحقوقية
لم يقتصر العذاب على الجسد فقط، بل وصل إلى الدين والمعتقد. يقول أمير: "تعرضت للتعذيب فقط لأنني قلت آمين بعد الفاتحة في الصلاة".
وفي خضم معاناته، تلقى خبر وفاة عمته بلغم حوثي زرع خلف منزلها في التحيتا. الصدمة عمقت أزمته النفسية وزادت حالته سوءًا.
ثلاث سنوات كاملة لم يلبس خلالها سوى بدلتين. أما أدوات النظافة التي يفترض أن تقدمها المنظمات، فكانت تقدمها منتهية الصلاحية.
الحرية بعد الظلام
بعد هذه الرحلة القاسية، أبصر أمير النور أخيرًا. ففي منتصف أكتوبر 2020، أُفرج عنه ضمن الدفعة الأولى من تبادل الأسرى، بعد ثلاث سنوات من الاعتقال والتعذيب والمعاناة لُم شمله بعائلته وقد أثخن جسده بالتعذيب واعتل بالأمراض التي أصيب بها في السجن.