فعليا، كان ما يعرف بشمال اليمن أول الدول العربية، ومن أوائل الإسلامية استقلالا عن الاستعمار الأجنبي، وحري بهكذا ميزة أن تعطي البلد قصب السبق في الدخول مضمار العصر وتحديث بناها السياسية والإدارية والاقتصادية، لولا أن أئمة التخلف سرعان ما تسلموا الحكم من الأتراك، وبدلوا مزية التحرر المبكر بالمزيد من التراجع حتى عما خلّفه الأتراك العثمانيين من أنظمة وبنى تنموية غاية في الهشاشة والمحدودية، وظلت اليمن حبيسة رغبات إمامية أنانية كل همها البقاء في السلطة على أساس نظرية الاصطفاء الإلهي وحسب مقولة " من أيدينا إلى أيدي عيسى" كما ورثها مسنون عن آبائهم منسوبة ليحيى حميد الدين، إلى أن أتت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 كطوق نجاة لليمنيين.

 

خيانات الإمامة

اتسمت سياسات يحيى حميد الدين وولده أحمد بالطابع التقسيمي في جوانبه الطبقية والطائفية والسياسية، وبالتفريط في مصالح اليمن واليمنيين.

 

استمرا في سياسات من أُطلق عليهم وصف "أئمة" في تقسيم المجتمع إلى طبقات شبيهة بالتراتبية الطبقية في الديانة الهندوسية، إذ يمثل رجال الدين الأخيار، وهم في الوضعية اليمنية أدعياء الانتساب السلالي إلى النبي من ابنته فاطمة وزوجها علي بن أبي طالب، فيما تشكل طبقة القضاة معاونين للأولين، ويمثل المشايخ وزعماء القبائل طبقة المقاتلين والوكلاء للأئمة، أما التجار والمزارعون فطبقة تالية، وفي الأدنى أصحاب المهن "الوضيعة" بنظرهم، ثم طبقة المنبوذين من ذوي البشرة السوداء الذين استخدموا كعبيد بصورة ظاهرة في العهود الإمامية، وتحت غطاء "أحفاد بلال" في العهد الحوثي الإمامي.

 

بعد تضحيات يحيى حميد الدين بآلاف اليمنيين في معاركه مع الاحتلال العثماني، خان دماءهم وحلفاءه الأدارسة بتوقيع صلح دعان مكتفيا بحكم ذاتي محدود على أساس تقسيم طائفي للأراضي اليمنية وامتيازات مالية مقابل التفريط في مساحة جغرافية واسعة، مثلما يسعى الحوثي اليوم، وتكرر الموقف بإدخال البلاد في حرب خاسرة مع البريطانيين انتهت بمفاوضات أدت للتوقيع على اتفاقية العام 1934 اعترف يحيى بموجبها بحدود فرضها الإنجليز وتخلى عن أراض جنوبية ضمن نفوذه، غير إقحامه اليمنيين في حرب خسرها هي الأخرى مع السعوديين.

 

وفي العام 1947 فتح يحيى اليمن للنفوذ الأمريكي، القوة العالمية الصاعدة بسرعة للهيمنة على المسرح الدولي، بتوقيع اتفاقية صداقة وتجارة وتلقي قرض بمليون دولار، ليستكمل المهمة ابنه أحمد بمشاريع النقطة الرابعة الأمريكية، الأداة الاقتصادية لتسلل النفوذ الأمريكي إلى بلدان العالم الثالث.

 

وعلى صعيد القضية الفلسطينية قدم أحمد خدمة جليلة لدولة إسرائيل الناشئة، والمأزومة بالعدد القليل للسكان بموازاة الكثرة الفلسطينية، بتهجير خمسين ألف يهودي يمني من نحو 52 ألفا إلى دولة الاحتلال الصهيوني من خلال عملية "بساط الريح".

 

إمامة التخلف

وظف يحيى وأحمد إمكانيات اليمنيين بما يعزز استمرار الحكم في الصفوة المختارة إلهيا، بعيدا عن متطلبات العصر في كافة المجالات. فعقب الهزيمة من السعوديين حاولا تقوية جيش يحمي السلطة فبدآ بابتعاث ضباط يمنيين للدراسة في العراق وشراء بعض الأسلحة الحديثة، وتلقي بعض مشاريع للبينة التحتية، لا تكاد تعد على أصابع اليد، من بلدان كبرى في إطار صراعاتها الدولية لمد النفوذ السياسي عبر المساعدات.

 

 بقي كل شيء تحت إدارة ما يسمى "الإمام"، فمن الناحية السياسية لا وجود لحكومة إلا بعض المساعدين، وأتت محاولات انخراط أحمد في تشكيل حكومة متأخرة لذر الرماد على العيون وامتصاص تصاعد حركات المعارضة وتنوعها، وفي الجانب الإداري اعتمد " الإمامان" على الأنظمة العثمانية المتخلفة، والعمل بدون قوانين غير ما يراه الإمام في النواحي الإدارية والمالية والسياسية، وكل شيء تقريبا.

 

إلى جوار الاستئثار بتفاصيل السلطة استحوذت الأسرة الإمامية الحاكمة على تلابيب الثروة، كما يسعى الحوثي اليوم، فحازت ربع مساحة الأراضي الزراعية في البلد، إضافة إلى أراضي الأوقاف، ونسبة أخرى كبيرة بين أيدي أعوانها من الإقطاعيين، رافق ذلك انعدام شبه تام للصناعة، ومضايقات للتجار، وعندما اندلعت ثورة سبتمبر كان خمس سكان اليمن يتواجدون خارجها بفعل احتمالات صفرية لحياة كريمة تحت سياسات التنفير والاستحواذ والاضطهاد بكافة أشكاله بما فيه الشكل الاقتصادي بالإثقال على الناس بالضرائب والإتاوات الباهظة والتي لا تتوقف بمبررات شتى، تماما، مثلما هو الحاصل في العهد الحوثي.

 

مع اشتداد وتنوع المعارضة اليمنية للحكم الإمامي عمل أحمد على اتخاذ خطوات تنموية متواضعة في النصف الثاني من الخمسينيات لترميم وضعه المتهالك، فأقام مشروعات كهرباء بمولدات صغيرة تابعة "للإمام"، ومشاريع طرق معبدة بين المخا وتعز من قبل فرنسا سرعان ما توقفت، وتبرعت الصين بطريق الحديدة صنعاء، إلا أن أهم المشاريع كان بناء الاتحاد السوفيتي ميناء الحديدة الذي لم يستغله النظام الإمامي رغم أهميته الاقتصادية للبلاد.

 

بالنسبة للتعليم الحديث أنشئت ثلاث مدارس متوسطة مدة الدراسية فيها لا تتجاوز أربع سنوات في حين اهتمت السلطة الإمامية نسبيا بالتعليم الديني بنحو 15 معهدا لتخريج قيادات دينية مساعدة للحكم القائم، كما كان اختيار الدارسين يتم وفق ولاءات أسر الطلاب للنظام، ماعدا في مدرسة الأيتام بائسة الإمكانيات لدرجة وفاة كثير من الدارسين فيها.

 

لم يكن المجال الصحي أفضل حالا حيث اقتصر عدد المستشفيات على ثلاثة في وقت تقتل مختلف الأمراض الوبائية الكثير من سكان "المملكة المتوكلية اليمنية".

 

جهل وفقر ومرض أشاعتها الإمامة المتخلفة في اليمنيين لتظل راية الاصطفاء الإلهي ترفرف على جثث أبناء اليمن، حتى طلع فجر السادس والعشرين من سبتمبر الذي استمر التآمر عليه وعلى منجزاته خفية ليكشر عن أنيابه، بدعم إيران، في الحركة الحوثية مذيقة أجيال سبتمبر الطعم المرّ لما عاشه آباؤهم وأجدادهم.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية