أنت بخير يا أحمد الرمعي
طيب الله أوقاتك أخي وأستاذي وزميلي ورفيق دربي وصديقي وخالي العزيز احمد الرمعي.
أتمنى أن تكون قد سرتك مراسم الزفاف إلى مأواك الذي انتقلت إليه بين يدي ربك ، وسامحنا إن قصرنا معك ونحن بلا شك مقصرون .
حاول الحزن أن ينال مني ولا يزال ، لكني لم ولن أسمح له ، كما لم ولن أبكي فراقك مثل كثيرين ممن أحبوك ، وإن غالبتني الدموع سأغالبها بابتسامة ، وها هي تفعل الآن وأنا أفعل.
ألم تكن تقول لي أني مختلف عن الآخرين في كثير من الأشياء والصفات ، ومنها طريقتي في التعامل مع المواقف الطارئة ؟
حسنا .. ها أنا أختلف عن الذين أحبوك ، فهم حزانى وبعضهم يبكون ، وبعضهم يكتبون ويتحدثون عن رحيلك حرقةً وألماً ووفاءً وتفاعلاً وبعضهم تصنُّعا أيضا ، ولستُ ممَّن يستطيعون أن يسقطوا ما في نفوسهم بالنحيب أو الاستسلام للحزن ، وإن كنت مثخنا بالوجع ، لكني أتجاهله ، وأكتب عنك الآن وأنا أبتسم ، ومطمئنٌّ أنك بخير.
أنت بخير - يا صديقي - وأنت من قلت لي ذلك صباح السبت - الذي سبق رحيلك بيومين - حينما أيقظتك من نومك لأسألك عن حالك ، فقمت من منامك ووقفت على قدميك ، وقلت لي أنك بخير ، خرجت من غرفتك مطمئنا ومصدقا أنك بخير ، وأصدقك القول أني - وبعد أن سكبتُ على قبرك ما تيسر من التراب مع الساكبين ، وترددت على قبرك لثلاثة أيام متتالية - أثق الآن أنك بخير ، وليس في المسألة شيء من الفانتازيا ، ولكني مؤمن حقًّا أنك الآن بخير أكثر مما كنت بيننا ، رغم أنك كنت بيننا رقمًا لا يضاهيك رقم ، وأنت تبدع في عملك ، وتمتع من يجالسك ، وتوجع من يستحقون الوجع بقلمك الحر الشريف النقي الأنيق ، وتنتصر بالكلمة والموقف لكلِّ أنَّة وجعٍ مغبونة على امتداد تراب هذا الوطن ، وعلى امتداد المعمورة .
أنت بخير - يا رفيق الدرب والنضال - لأنك غادرتنا واقفًا شامخًا ثابتًا كبيرًا نظيفًا وطنيًا جمهوريًا مناضلاً مؤتمريًا يمنيًّا صادق الانتماء والحب والولاء لليمن ، وختمت نضالك الوطني بحضورٍ قويٍّ ومشرفٍ في معركة الخلاص الوطني ، التي يخوضها أحرار اليمن وأنقياء اليمن ، ضد عصابات الغدر والخيانة والكهانة والعمالة ، التي أفسدت حياة اليمنيين وحوّلتها إلى موتٍ في الحياة ، فقتلتْ ونهبتْ وشرَّدتْ واستبدَّتْ وغدرتْ وأجرمتْ في حق الوطن والشعب ، تنفيذا لمخططات سادتها وسدنة خرافتها، الذين يديرون أصنامها من حوزات قُم ودهاليز طهران.
أنت بخير - أيها الصحفي المقتدر العاشق لمهنة المتاعب - لأنك تجاهلت الترويسة والبريستيج والبرتوكولات، وتناسيتَ أنك رئيس تحرير " منبر المقاومة " الموقع الصحفي الأول للقوات المشتركة في الساحل الغربي ولسان حالها، واستيقظت قبل معاونيك في يوم جمعة وإجازة، وتحركت بسيارتك في مهمة صحفية، كان يمكن أن يقوم بها أي محرر، لكنك أنت " أحمد الرمعي " ابن المهنة وأستاذها وعاشقها، آثرت أن تنفذها بنفسك، قناعة بأهمية ونبل وإنسانية المهمة، وتأكيدا على استشعارك بالمسئولية المهنية والإنسانية والوطنية، تجاه البسطاء المشردين، المهجرين قسرا من بيوتهم وقراهم إلى المخيمات، الذين أحاطت بهم الأمطار والعواصف وسيول الوديان ليلاً، ويعيشون كارثة تداعى لها - بالسهر والاستنفار- كل من يحمل في نفسه ذرة انتماء وطني وإحساس إنساني، فكتب الله لك أن تكون هذه المهمة الوطنية والإنسانية خاتمة رصيدك الحافل بالمواقف والاعمال النبيلة.
أنت بخير - يا رجل المواقف النبيلة - لأنك رحلت شهيدا في سبيل الله والوطن والأرض والإنسان والقيم النبيلة التي آمنت بها، وكنت رحلة من الوفاء والثبات والاستعداد الدائم للتضحية والفداء في أي موقف يقتضي التضحية والفداء، من أجل اليمن الأرض والانسان والتاريخ، ومن أجل قيم الخير والعطاء والحرية.
أنت بخير - أيها الحبيب المحبوب - وعشرات الآلاف من البشر حزينون ويبكون ويترحمون عليك ، بعد أن قرأوا أو كتبوا أو تداولوا خبر رحيلك في حادث مروري، وحتى دون أن يتبين أغلبهم أن حادث السير الذي تسبب في رحيلك حدث لك وأنت تسابق شروق الشمس، متجهًا نحو مخيمات النازحين، التي أغرقها المطر وجرفتها الوديان ليلاً .
أنت بخير - يا صديقي - وقد أبلغني زملاء لنا أنك قلت لهم قبل أيام قليلة من الحادث والمصاب والرحيل أنك ستغادر، وحدثتهم عن الرحيل، وطلبت منهم أن يسامحوك ويتسامحوا فيما بينهم، لأن كل واحد منهم يمكن أن يموت في أية لحظة، حيث أسباب الموت حاضرة في حياتنا وحولنا أكثر من أسباب الحياة، وتلك هي الحكمة التي عرفتك بها، وليس غريبا على صاحب قلب نقي وعقل نظيف وروح محلقة في فضاء النبل أن يفكر بالخاتمة، ويتنبأ بشيء مما تحمله الأيام والأقدار القادمة.
أنت بخير - أيها الكريم الرحيم المتواضع المؤمن بالحق والعدل - وقد غادرت عالمنا المليء بمن يكفرون بالحق والعدل، وغدوت بين يدي الحق وأقداره ، وفي ساحة أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين وأعدل العادلين، وتحت قضائه العادل ورحمته التي وسعت كل شيء.
أنت بخير، أيها العملاق الذي ما دنا لكريهة، ولا استسلم لنكبة، ولا انحنى خاضعا لمغريات الحياة، ولا أسقطت قيمه وأخلاقه أزمة أو حاجة، رغم ما عاشت من أزمات ومصائب ولحظات حاجة وانكسار، تجاوزتها بعصامية وأنفة، وسلكت لمواجهتها طريق الكفاح، وحينما جاءك الموت، استقبلته واقفًا شامخًا عنيدًا صنديدًا، ودخلت على قدميك لتواجهه في غرفة الحالات الحرجة، التي لم يخرج منها بعد ساعات إلا جثمانك الطاهر، وقد أسلمت روحك النقية إلى بارئها.
أنت بخير، أيها الأب الحنون الكريم المسئول الذي يعرف معنى الأبوة وحقها وتبعاتها ، فقد أمضيت الكثير من عمرك نظيف اليد والعقل والضمير ، حريصا على نظافة ما يأكل أبناؤك ويلبسون ويصرفون ، وكنت تمضي الكثير من وقتك وقلبك معلق بأسرتك وأبنائك الذين عملت من أجلهم ما استطعت ، وعوضت ما لم تستطع حبا وحنانا واهتماما وأرقا وقلقا عليهم وعلى حياتهم وعلى مستقبلهم وتعليمهم وتربيتهم على القيم النبيلة ، التي تحترم إنسانية الانسان وحقوقه وكرامته قبل أي شيء آخر .
أتذكرك بإجلال ، وأتحدث بفخر عن الثقة الكبيرة التي كانت بيننا ، وانت تفتح لي قلبك ، وتحدثني عن كثير من خباياه ، ولا اظنك تمانع في ان اذكر منها هنا شيئاً من حديثك عن حبك لزوجتك الأولى التي أقعدها المرض ، وحبك وتقديرك لزوجتك الثانية التي حملت معك كل الهموم وشاركتك الاهتمام بزوجتك الأولى ، فكانت لها معينة وطبيبة وأختا كريمة لا ضُرة ولا خصيمة.
ما زلت أتذكر كثيرا من الأحاديث التي دارت بيننا، حول دراسة اولادك وبناتك ، واهتمامك بمستوياتهم ومستويات المدارس التي التحقوا بها ، وحالة الطوارئ التي كنت تعيشها في أيام التسجيل وأيام الامتحانات ، وهموم المعدلات والتسجيل في الجامعات ، وما زلت أتذكر - أيضا - كيف كان حالك عندما تزوجت كبرى بناتك وأنت في الساحل الغربي، وأتذكر كثيرا من أحاديثك عن أبنائك الثلاثة وبناتك الثلاث ، وكيف أن لكل واحد منهم حكاية ومكانة ومحبة في قلبك الممتلئ حبا وعقلك المشبع بثقافة الأبوة الحقة.
ولم يكن غريبا على مسامعي ما وصلني من زميلنا النبيل صادق شلي حول آخر ما حدثته به عن أولادك وبناتك وأسرتك، وأبشرك أن حديثك وصل إلى مسامع قائدنا النبيل طارق عفاش ، وتفاعل معه بإنسانية هو أهل لها وبوفاء أنت أهل له وبمبادرة يستحقها أبناؤك وبناتك وأسرتك الكريمة .
أنت بخير - أيها الأستاذ القدير - وتلاميذك الذين تعلموا منك - وأنا واحدٌ منهم – وزملاؤنا وأبناؤنا الذين دربناهم أنا وأنت سويًّا في نقابة الصحفيين وفي مراكز التدريب وفي الصحف الأهلية وفي بئر أحمد وفي الساحل الغربي، جميعهم يتذكرونك بكل خير وبكل محبة وتقدير، ويتواصون بالصبر والثبات على المبادئ التي عشت بها واستشهدت عليها ، ويدعون الله لك بالرحمة والمغفرة والخير كله.
أنت بخير، أيها الحاضر الكفء، الذي لم يغب يوم كريهةٍ عن الحضور المشرف ، ولم تستطع ان تغيبه الأنواء العتية ولا الأهواء الغبية ، وستظل أنت حضوراً نبيلاً وجميلاً في وجدان النبلاء والأنقياء، والنبلاء والأنقياء وحدهم يستطيعون اليوم وغدا ان يسجلوا حضورا إنسانيا حقيقيا بك ومعك ولك ، وذلك ما لا يستطيع ان يفعله الانتهازيون مهما حزنوا أو تصنَّعوا الحزن ، وهم أحق من غيرهم بالحزن ، لأنهم لن يستطيعوا - بعد رحيلك - ان يسجلوا لأنفسهم حضورا على حسابك أو خصما من رصيدك الوطني والإنساني والإبداعي الذي لم ينقصه أولئك الذين استقطعوا منه لأنفسهم على مدار ثلاثة عقود ونيف.
أنت بخير يا خالي العزيز، الذي أفخر أنه منحني شرف أن أناديه بهذه الصفة ، وها أنا أكتب لك - يا خالي - وأمامي صورتك التي طبعناها لفعالية تشييع جثمانك، وقد كُتبَ فيها بعد اسمك ( رماع / الحديدة ) ، أتأمل الصورة وهذه البيانات وأضحك، كما كُنَّا نضحك أنا وأنت عندما ننجز صفحةً أو صحيفةً أو منشورا أو بياناً، ونكتشف - بعد الطباعة - أن فيه خطأ لغويًّا أو طباعيًّا أو معلوماتيًّا مرّ علينا دون أن ننتبه له، لكني وأنا أتذكر تلك الطقوس أقول لنفسي: " لو كانت المعلومة التي كتبت على صورتك صحيحة لما دعوتك خالاً، وما قلت لي يوما ( أهلا يا بزي ) .
العجلة والتعب والحزن والصدمة التي نحن فيها سبب هذا الخطأ، وأنت أكثر من يعرف كيف تكون أحوالنا عند الانشغال بشيء أو التحضير لفعالية، ولكني أتخيلك وأنت ترى الصورة وما كُتبَ عليها وتقول لي - معاتبًا - بابتسامتك المعهودة : (هيَّا وكيف يا بزي ) ...؟
عاتبني كثيرون من أخوالي أهل ريمة، ولكن ليس بطريقتك، وقد وضَّحت لهم الأمر، لكنِّي حريص على التوضيح هنا لك ولمن لم أجد الفرصة لأوضح له في التشييع أو العزاء، وأقول لمن يقرأ هذه السطور أن أستاذي وحبيبي أحمد الرمعي - وإن عاش في الحديدة أو حتى وُلد فيها - فإنه ابن مديرية مزهر الواقعة على وادي رماع في محافظة ريمة، وهي المديرية الواقعة جوار مديرية السلفية التي جاءت منها الجرادية أمي ، وإلاَّ فكيف سيكون خالي ...؟!
أدري أن هذه الملاحظة لا تهمُّك كثيراً، فأنت ابن اليمن كلها، وحق إنسانيتك أن تكون الإنسانية وطنك حيثما كان وطنها، لكني حريص على تصحيح المعلومة إنصافاً لأخوالي أهل ريمة، ودفاعا عن حقي في التفاخر بك خالاً لم يكن لأمِّي أخاً.
بالمناسبة يا خال : في الدار التي انتقلت إليها، هناك أمي الجرادية التي كنت أحدثك عنها، إذا قابلتها ولم تتعرف إليك، قل لها - فقط - أني أدعوك يا خال، واني أدعو كل من ألتقيه من أبناء محافظة ريمة كلها " يا خال " طاعة وحبا لها ، وأن لي هنا في الساحل الغربي أخوالُ كُثرٌ أفخر بهم وبما يسطرون من مواقف وبطولات، مع زملائهم إخواني وأعمامي وأصدقائي وأحبتي من كل اليمن، جمعتنا هنا في الساحل الغربي معركة وهدف وقضية ورفقة وتضحية وغاية نبيلة، فأصبحنا جميعنا أهل وأسرة، ستفرح أمي الجرادية كثيرا بذلك.
أمي الجرادية - يا خال - تحبني وتحب الزعيم صالح، وحينما علمتْ باستشهاده - وهي على فراش المرض - قالت بحسرة وهلع : ( الله يرحمك يا علي عبدالله .. الله يخارجك يا أحمد ) ، وما لبثت - بعد ذلك - شهرا إلا وفاضت روحها إلى الله ، وكان الله قد استجاب دعوتها و" خارجني " وأخرجني إلى عدن، فلم أستطع أن أراها أو أشارك في حمل جثمانها إلى المقبرة، تمامًا كما لم يستطع ابنك فراس وإخوته أن يشاركوني حمل جثمانك إلى مقبرة الشهداء في المخا، قل لها - يا خال - أني أنا وأنت استقبلنا عزاءها في قاعة الفندق في ساحل أبين بمدينة عدن، قبل أن ندخل معسكر بئر أحمد وقبل أن ننتقل إلى الساحل الغربي الذي نستقبل فيه اليوم عزاءك دون ان يشاركنا فراس ابنك وإخوته .
الجرادية - يا خال - كانت تحثني على طاعة الزعيم والبقاء إلى جواره والوفاء له، مثل كل الأمهات اليمنيات النقيات ، قل لها إننا نقاتل من قتلوا الزعيم، وهم أنفسهم من حرموني رؤيتها قبل الرحيل، وبسببهم غبتُ عن مراسيم قبرها، وهم أنفسهم من حرموا أولادك من رؤيتك وحضور مراسيم تشييعك، قل لها أن وصيتها بطاعة الزعيم - وكذلك وصايا الزعيم نفسه - دستورٌ ووعدٌ وعهدٌ في عنقي، وفي أعناق كل أحرار اليمن، حتى ننتصر له وللوطن والشعب، ونقتص للمقهورين والمغبونين والمشردين والمظلومين ودماء الشهداء، أو نلحق بمن سبقونا، شهداء أوفياء ثابتين غير ناكثين ولا مفرِّطين.
قد تسألك أمي الجرادية نفس السؤال الذي سألتني في آخر اتصال بيني وبينها : ( ليش ما تقبروا الزعيم ) ؟
قل لها يا خال : لعل الله - سبحانه وتعالى - أراد أن يمنحنا الفرصة، لنقتص من قتلته وقتلة الشعب اليمني، وندفنهم قبل ان نشيع جثمانه التشييع الذي يليق به إن شاء الله، وإن أمد الله بعمري إلى ذلك الحين وأكرمني بأن أكون بين المنتصرين والمشيعين، سأذهب – بعد ذلك - إلى مرقدها، وأعفر وجهي بشيء من غبار على قبرها، ووعداً لك مني - يا خال - أن أصطحب فراساً وإخوته إلى مرقدك ليفعلوا ما سأفعله على قبر أمي إن شاء الله.
أرجوك - يا خال - لا تحدث أمي ولا جيرانها وجيرانك - في تلك الدار - عما يحدث في التربة أو في تعز أو في شبوة أو في عدن أوفي مارب، ولا عن أخبار القنوات وشبكات ووسائل التواصل، ولا حتى عن كورونا وأخواتها، حدثها عن أشياء أخرى قد تفرحها، قل لأمي - مثلاً - إن حفيدها صخر يدرس في الجامعة وأخاه عمرو سيلحقه إن شاء الله هذا العام ، مثل هذه الأخبار سوف تسعدها كثيرا ، ومثلما قلت لي يوم السبت إنك بخير، قل لها أيضا أني بخير .
سلامٌ عليك وعلى أمي وعلى الزعيم وعلى الأمين وعلى كل الشهداء
لله ما أعطى ولله ما أخذ، وله الحمد والشكر على كل حال
( إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون )
المجد والخلود للشهداء
النصر والسلام لليمن
الخزي والعار والفناء للكهنة الخونة العملاء المجرمين أعداء اليمن
ولا نامت أعين الجبناء
بالروح بالدم نفديك يا يمن
تحيا الجمهورية اليمنية