كثيرا ما تشهد البلدان ذات التواجد النافذ لحركات الإسلام السياسي، سواء في الحكم أو المعارضة، توترات داخلية ومع الخارج، تصل إلى الانفجار أحيانا، أو تطول قواعد اللعبة السياسية في أحيان أخرى، وحيال ذلك تبرز نقطة جوهرية تفسر سلوكيات هذا النوع من الحركات، تخفض فرص تصالحها مع المفاهيم السياسية المعاصرة، من أهمها ما يخص معاني الدولة والديمقراطية، وما ينجم عنها من حقوق والتزامات تتصل بالسيادة والمواطنة والولاء الوطني والمصالح العليا للدولة، وتكافؤ الفرص والتداول السلمي للسلطة، وغيرها.
 
تفترض حركات الإسلام السياسي، عموما، أن المفاهيم الحديثة، السياسية والاقتصادية، هي وليدة ثقافات وهويات أخرى غير الثقافة والهوية الإسلامية، وأن الأصل أو القاعدة الثقافية التي تقوم عليها تلك المفاهيم تتصادم فلسفاتها مع ثقافة تاريخية شكلها الإسلام عبر قرون وأتاح من المبادئ ما يمكنها من استيعاب أي تطورات لا تتعارض معها، لكن وفق نظريات هذه الحركات وتفسيرها للنصوص المرجعية للإسلام لا كما تحددها ضوابط علمية وعقلانية لقراءة النصوص، وإن اختلفت هذه الحركات حول فرضية التصادم، فمن ناحية التصريح أو التلميح في قبولها والممارسة على أساسها.
 
منطلق ظاهره الرحمة وباطنه فيه العذاب، إذ تنبع خطورته من تخويل هذه الحركات لنفسها، وكل على حدة، تحديد معالم البنيان الثقافي للمجتمعات الإسلامية وما تستتبعه العملية في المستوى السياسي من إصدار تقييمات للضار والنافع الوافد من نواظم الحياة السياسية، وتعديل النافع بما يتوافق مع اجتهادات مؤسساتها ومنظريها.
 
دون الخوض في تفاصيل مفندة لحيثيات فرضية تعارض التراث- المعاصرة، في منطلقات ونتائج بناء مفاهيم السياسة، نقتصر على تناول مفردة الدولة الوطنية، وبشكل مجمل.
 
تتميز الدولة الحديثة عن الدول القديمة بتقنين جغرافيتها وما ينبني عليها من أثر داخلي وخارجي أبرزه شخصيتها السياسية، فهي تنشأ على رقعة جغرافية محددة، عادة ما تكون محل اعتراف بقية الدول، تمارس عليها سيادتها التي من أهم مظاهرها تشريع وتنفيذ قوانينها في إطارها الجغرافي السياسي، وبالمقابل احترامها لسيادات الدول الأخرى.
 
مشكلة حركات الإسلام الساسي مع هذا المفهوم أنها تتجاوز معانٍ داخلة في مقوماته بمقدمتها مفهوم المواطَنة، إذ بنظرها لا تمثل الدولة الوطنية أكثر من تقسيم تنظيمي جغرافي لنشاطها، والوطن والمواطن لدى حركات الإسلام السياسي، مفهومان ثقافيان أكثر مما هما سياسيان، فالوطن هو كل أرض فيها مسلمون، والمواطن هو كل مسلم، غير أنه حتى هذا المفهوم ينحدر إلى مستويات طائفية، ومن ثم فحقوق المواطن وواجباته لا ترتبط بالضوابط الدستورية والقانونية للدولة الوطنية والاتفاقيات الدولية ولا تنبثق منها بل من محددات، اجتهادية بشرية في حقيقتها، وضعها منظرو الإسلام السياسي إلا أنها منسوبة إلى الله، فلا تعدد للمواطنة بتعدد الدول الوطنية، لا وجود ليمني أو تركي أو مصري إلا في الحدود التنظيمية لا السياسية، والمواطن في نظرها فئة واحدة، هي المسلم، وعمليا المنتمي للطائفة، والأجنبي فئة واحدة، هي غير المسلم، ولا وجود للدول الوطنية فهناك دولتان فحسب "دار إسلام" و "دار كفر".
 
من التداعيات السياسية العملية لهذه المفاهيم أن الالتزامات لا تكون لدستور الدولة، وإنما لدستور الجماعة، والولاء ليس للوطن الجغرافي السياسي وإنما للوطن الثقافي.
بالإسقاط على ظواهر أثرت بنا نحن اليمنيين، لا مشكلة في طاعة الحوثيين لمبادئ ولاية الفقيه أزيد من الالتزام لمبادئ الدستور اليمني، ولا ضير أن يصبح ضابط في الحرس الثوري شقيقا في الأرض اليمنية له من الحقوق ما يفوق أضعاف حقوق معظم اليمنيين، فالمواطنة هنا متماهية مع الطائفة.
ولا مشكلة في عودة الجنود الأتراك بأسلحتهم إلى اليمن، فالدستور هنا توجهات قيادة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين.
 
وعندما تصل حركات الإسلام السياسي إلى السلطة في دولة ما يصير التدخل الفج في شؤون الدول الأخرى من الأمور المشروعة ولا يحتاج إلى إضاعة الوقت مع القنوات الدبلوماسية والرسمية، وفي هكذا إيديولوجيات ومفاهيم فكل شيعي في أية دولة من دول العالم مواطن من رعايا سلطة ولاية الفقيه في إيران ومجالا مشروعا لأنشطتها، حقوقه تنبثق منها ولو على حساب الشعب الإيراني، وتجاهها تتولد التزاماته وإن على حساب مواطنيه في بلده الفعلي.

أخبار من القسم

تطورات الساعة

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية