ثورتان في لبنان والعراق خرقتا الخطوط الحمراء
مراقبو الانتفاضات الشعبية في العراق ولبنان منذ منتصف أكتوبر (تشرين الأول) يتساءلون عن مدى ذهاب هذه التحركات الشعبية الى إحداث تغيير سياسي ودستوري حقيقي، أم أن النظامين في كلا البلدين سيتمكنان من استيعاب التظاهرات عبر آليات سياسية ودستورية وتطويق ميداني وأمني، من شأنهما إنهاؤها قبل بداية العام الجديد.
غير أن الأسابيع الأخيرة من أكتوبر والأسبوع الأول من نوفمبر (تشرين الثاني)، أقنع الكثيرين وأنا منهم، أن الثورتين عميقتان وقطعتا خطوطاً حمراء وضعتها السلطات في بيروت وبغداد، والتحركين الشعبيّين يتطوران باتجاه إحداث تغيير هائل وعميق في البلدين إن كان على الصعيد المجتمعي الاقتصادي او السياسي.
وما يجمع الحالتين أن النظام في البلدين يمتلك جذوراً طائفية مرتبطة بقوة إقليمية هي إيران، وبالتالي السؤال الذي يُسأل دولياً الآن يتمحور حول قدرة هذه التحركات على إحداث تغيير جذري في ظل وجود ذراعين قويّتين للنظام الإيراني، الحشد في العراق و"حزب الله" في لبنان.
إلاّ أنّ مراقبة الأحداث على الأرض وتضحيات الشعب، خصوصاً الشباب من أجل استمرار الانتفاضة، إن دلت إلى شيء، فتدل إلى قرار جماعي للجماهير في الوصول بالبلاد إلى مكان آخر، حيث لن يعود هناك مكان لاحتكار سياسي للسلطة، وتنتج مع الوقت آليات دستورية مختلفة عن التي كانت قائمة منذ عشرات السنين.
الأوضاع الجيوسياسية والداخلية والاقتصادية والتقاليد التاريخية، إضافةً إلى الحجم والموقع الإقليمي للبلدين، يتضمن فوارق قد تفرض على قوى التغيير المرور بمنحدرات مختلفة وتؤثر في المرحلة الزمنية للانتفاضتين، ولكن في نهاية الطريق، هناك خط متواز، وإن لم يكن مماثلاً تماماً بين الأحداث التي تعصف في لبنان وتلك في العراق وهذا ملخصها.
في لبنان، وصلت الحركة الشعبية عبر تطورها إلى حالة وطنية استراتيجية بإمكانها التنسيق بين المجموعات المتظاهرة في العاصمة وسائر المدن الأخرى، ووصلت إلى قناعة بأن هناك قدرة لدى العصب الرئيس للانتفاضة على التموضع تنظيمياً بشكل يمنع ضربها من دون استخدام قوة عسكرية كبرى.
وكما كان حال اتحاد نقابات التضامن في بولندا نهاية الثمانينيات، حيث تحوّل إلى عصب أساسي للانتفاضة الشعبية في وارسو والمدن الأخرى، فإن التنظيم الداخلي للانتفاضة التي تتحرك من دون قيادة سياسية واضحة يشكل ضمانة لنمو واستمرار الانتفاضة، إضافةً إلى استخدام الشباب لوسائل التواصل الاجتماعي بشكل مكثف والقنوات الفضائية التي تنقل الوقائع.
ويمكن القول إن الانتفاضة في لبنان جمعت بين خبرة الثورة الخضراء في استخدام تويتر في إيران عام 2009، وثورة الأرز التي استخدمت الرسائل النصية، ودور القنوات الفضائية تماماً كما حدث في مصر أثناء انتفاضة 30 يونيو (حزيران) ضد نظام الإخوان في البلاد.
وأصحبت التظاهرات اللبنانية هي العنصر الأكثر تنظيماً في بلاد الأرز بعد الجيش اللبناني وحزب الله، ما يعني أن تفكيكها بات مستحيلاً من دون تحرك ميداني استخباراتي عسكري ضدها.
أما على صعيد المطالب، فإنّ الانتفاضة اللبنانية رفعت مطالب مقبولة دستورياً، وغير تعجيزية، فهي لم تطرح تطبيق القرارات الدولية ولم تذهب بشكل عشوائي إلى حل جميع المسائل الاجتماعية الاقتصادية. وبذكاء واضح، تقدمت الثورة في لبنان بآلية مقبولة ودستورية لا تثير الإرباك المحلي والدولي، وهي تتضمن استقالة الحكومة وهذا ما تم، وثانياً، يطلب رئيس الجمهورية تشكيل حكومة تكنوقراط عبر وزراء لا يمتلكون ارتباطات سياسية وحزبية يحضّرون لانتخابات نيابية تفرز برلماناً جديداً، ثم يستقيل رئيس الجمهورية ويُنتخب رئيس جديد، ثم تُشكل حكومة أكثرية تنتشل لبنان من الطبقة الخطيرة التي سيطرت على الحكم منذ 1990.
ما طرحته الانتفاضة مقبول دولياً ويشير إلى نضج كبير لحل الأزمة، ما يدفع بالسلطة القائمة إلى رفض الحل وإعاقته، إذ إن أصدقاء إيران في لبنان يرفضون تشكيل حكومة تكنوقراط لأنهم يخشون على مواقع القوة التي يملكونها في الوزارات السيادية، فحكومة تكنوقراط تعني انتزاع امتيازات الميليشيات وأمراء الحرب.
المواجهة الآن بين التظاهرات الشعبية من ناحية، ورفض حزب الله لهذا الطريق السليم ومحاولة السلطة التشبث بحكومة سياسية ذات مظهر تكنوقراطي، وهذه لعبة تحد بين الشعب الذي قرر عدم العودة إلى الوراء وحكام لا يريدون التنازل عن سلطتهم بعد عقود.
المجتمع الدولي ولو بشكل بطيء، سينحاز إلى الشعب. وبالتالي، ما هو منتظر مع تنظيم التظاهرات، هو حوار بين المجتمع المدني اللبناني والمجتمع الدولي ما يعني إضافة الضغط على رئاستي الجمهورية ومجلس النواب من أجل تقديم تنازلات، والمميز الآن أنّ الانتفاضة تعلّمت من عام 2005 عندما نجحت الثورة في انتزاع الانسحاب السوري ولكن سياسييها أخفقوا في تغيير السلطة، وعادوا إلى المربع الأول بعد تهديدات حزب الله، فسقطت ثورة الأرز وحُيِّدت القدرة الجماهيرية، وهذا ما لن يحصل الآن، لأن السياسيين خارج التظاهرة، والقواعد الشعبية هي من تقود التحرك بدلاً عن زعماء يخافون على مصالحهم.
أما في العراق، فالتحدي مختلف إذ إن الانتفاضة غير المسبوقة وصلت إلى عمق الأكثرية، أي الطائفة الشيعية، وباتت المسيرات الهائلة تضرب في كل المدن من بغداد إلى البصرة، والشباب العراقي فاجأ النخبة الحاكمة ووصلت التحركات إلى عقر دار المقامات الدينية في كربلاء والنجف، حيث اعتمدت الميليشيات المؤيدة لإيران على رمزية هذه المواقع لفرض نفسها على المكون الشيعي العراقي، كما وصلت التحركات إلى قطاعات الشعب كافة من نقابات وعسكريين قدامى، كما كانت هناك مشاركة سنية ولو محدودة. وعلى عكس السنوات الماضية عندما كانت التظاهرات تنطلق من مناطق السنة وتُضرب بيد حديدية من قبل الميليشيات الشيعية المؤيدة لإيران، هبت الانتفاضة هذه المرة من بيئة الميليشيات وبالتالي أصبحت تؤثر في العمق وتمنع الجزء الأكثر إيرانية في السلطة من وضع كل ثقله خشية انهيار داخلي ضمن المكون الشيعي.
الوضع في العراق أخطر مما هو في لبنان، وذلك لكون هذه الجماعات الإيرانية وبعض قطاعات الأمن استخدمت القوة المفرطة لقمع المتظاهرين، ما أدى إلى سقوط عدد كبير من القتلى وآلاف الجرحى، وهذا يعني في منطق الثورات ألاّ عودة إلى الوراء بعد هذا النزيف.
كما أن مصالح النخب العراقية الحاكمة باتت تحت التهديد، وهذا الأمر سيدفع بالمستفيدين إلى إبداء قساوة كبيرة ضد المتظاهرين، وعملياً، أصبح العراق بين دفاع هذه الفئة عن المصالح وتصعيد المتظاهرين، وإذا كان المنتفضون في لبنان لا يتكلمون رسمياً عن ميليشيا حزب الله، فإن العراقيين ينددون أساساً بميليشيات إيران ويطالبون بخروجها من العراق، وباتوا ينظرون إلى طهران باعتبارها قوة استعمار، أي ان الوضع في العراق يشبه لبنان 2005.
الحلول المطروحة في العراق تتضمن استقالة الحكومة وإعادة الانتخابات، ما يعني أن نفوذ الميليشيات قد يسقط في ظل انتخابات نزيهة، كما أن الحل المتوسط والبعيد المدى يرتكز على أمرين: الأول هو اقتناع مجموعة السلطة بأن هناك مرحلة ما قد انتهت، والتكيف مع مرحلة جديدة تنحسر فيها سلطتهم، ولكن النظام الإيراني لن يتراجع على غرار قيادة هتلر والاتحاد السوفياتي، إذ تم التدخل مباشرة في شؤون الدول كي لا يقدم حلفاؤهم أي تنازلات.
وتوحي التظاهرات العراقية بالذهاب إلى أبعد الحدود، فالمتظاهرون لا يملكون شيئاً ليخسروه، ويصعب التكهن بأي قوة ستنهار أولاً، المعدومون الذين ثاروا أو المتمسكين بالسلطة ومالها.
إذاً، الثورتان العراقية واللبنانية متشابهتان، متوازيتان، تمضيان باتجاه واحد، التحرر والانتقال إلى مرحلة دستورية جديدة قد ينتج منها تغيير في المواضع الإقليمية، وإذا استمرت التظاهرات بهذا الشكل في العراق ولبنان، فنار الانتفاضة ستنتقل إلى إيران نفسها، فلا حدود أمام صور وفيديوهات الهواتف النقالة، والأسابيع والأشهر المقبلة سوف تكشف عن أهمية ما سيحدث.
* نقلا عن موقع (اندبندنت عربية)