نزوح إجباري للمعلمين خارج أسوار الوظيفة
بعد ثلاث سنوات من سيطرة الحوثيين على صنعاء، قد تبدو وتيرة الحياة اليومية في المدينة طبيعية إلى حد ما، لكن خلف جدران مدارسها ومراكزها وأبنيتها التاريخية، أزمة إنسانيه كبرى يغذيها نزاع دام يعمم المعاناة على كل أنحاء البلاد.
هُنا احدى القصص الإنسانية التي ارتطمت بواقع مرير صنعته مليشيات الحوثي في صنعاء، وما أكثر تلك القصص الإنسانية في عاصمة بطنتها مليشيات الحوثي الكهنوتية، وشطرت جسدها إلى نصفين وتركت نصفا للذئاب ونصفا لمن يعانون مرارة العيش والبحث عن لقمة العيش أو انتظار من سيقدم لها يد العون والمساعدة حتى تخرج من مأزق الصفحات السوداء لتفاصيل حرب أشعلتها جماعة تدعي نسبها الشريف والطاهر الذي يمدها بملك لا يفنا.
سلوى 31 عام، مُعلِمة مقرر التربية الإسلامية في الصفوف الأساسية في صنعاء، اضطرتها الظروف المعيشية القاسية الناجمة عن انقطاع صرف الرواتب لأكثر من سنة ونصف، إلى ترك المدرسة والعمل في تزيين النساء في محل كوافير.
تقول سلوى، "كان هو خياري الوحيد للحصول على دخل يوفر لي ولأولادي الأربعة بعد وفاة والدهم الاحتياجات الضرورية للمعيشة، مستفيدة من تجربتي الشخصية في تزيين بنات أقاربي في المناسبات.
ومثلها معلمون يمنيون آخرون في محافظات أخرى، اضطرتهم ظروف العوز الناجمة عن انقطاع صرف الرواتب بسبب الحرب المستعرة هناك إلى مغادرة وظيفة المعلم والعمل في مجالات أخرى وأحياناً قد لا تتناسب مع كونه معلماً يحظى باحترام المجتمع، كالمعلم (ع.م) الذي اضطرته الظروف ذاتها إلى مغادرة وظيفته والعمل في بيع نبتة القات.
"لم يكن أمامي مفر سوى البحث عن عمل إضافي أو مهنة بديلة لأتمكن من توفير الغذاء والدواء لأسرتي المكونة من 8 أفراد بغض النظر عن مدى صعوبة العمل أو عدم تناسبه مع كوني معلماً".
هذا ما قاله مدرس مادة اللغة العربية (ع.م) الذي قضى 13 عاماً من عمره في تعليم المقرر للصفوف المتقدمة في إحدى مدارس محافظة عمران (50 كلم شمال صنعاء) في تبريره لمغادرة وظيفته بعد أن توقف صرف رواتب المعلمين.
انسداد أبواب الحياة في وجه المعلم اليمنيّ، من المؤكد أنه أمر ليس حكراً عليه وحده، بعد توقف رواتب نحو 200 ألف موظف في قطاع التربية والتعليم في أغلب المحافظات اليمنية، من بينهم، حوالي 14 ألف معلم ومعلمة في محافظة عمران وحدها.
لقد وضعت الحرب المشتعلة في هذا البلد الفقير منذ ثلاث سنوات ملايين الأفواه الجائعة، يتصدرهم المعلمون وبقية الموظفين الحكوميين ومن يعولونهم في امتحان حقيقي، من أجل المكافحة للبقاء على قيد الحياة.
بعد تنهيدة عميقة كشفت عن ملامح شاحبة وعينين تكادان تنضحان بالدمع والأسى، يقول المعلم (ع.م) الذي طلب عدم ذكر اسمه لاعتبارات تتعلق بسلامته "لم يعد أمامي مجال للبقاء في المدرسة دون راتب يلبي لأسرتي أهم ضروريات العيش".
أجهد معلم اللغة العربية تفكيره، بعد انقضاء الخمسة الأشهر الأولى دون راتب، وهو يقلب السبل المتاحة أمامه للحصول على عمل بديل، فديونه تتصاعد كل يوم، وليس لديه مصدر رزق آخر، غير ما يتقاضاه لقاء وظيفته.
وأخيراً اتخذ قراره للعمل في شراء وبيع نبتة القات باعتبار ذلك هو أقرب المتاحات وأسهلها، لجهة ازدهار زراعة هذه النبتة في محافظته ورواجها في أسواق العاصمة صنعاء القريبة نسبياً من عمران.
طال أمد الصراع في اليمن، ما ألقى بقسوته، أيضاً، على سوق العمل؛ إذ تراجعت مصادر المعيشة وتضاءلت فرص الرزق، فصار من الصعب على هذا المعلم أو غيره من زملائه الحصول على فرصة عمل أخرى سهلة لا تتعارض مع استمرارهم في مهنتهم التربوية.
يقول: "تركت الذهاب إلى المدرسة هذا العام الدراسي، وانصرفت للمهنة الجديدة التي ساعدني على الانخراط فيها أقارب لي يعملون فيها منذ سنوات، عبر جلب القات يومياً من مزارعه في عمران إلى صنعاء".
اكتشف (ع.م) أن العائد المادي في هذه المهنة البديلة، التي لا تتواءم مع كونه معلماً يحظى بالاحترام والتقدير، أجدى من راتبه الحكومي بكثير، بل إنه يؤكد خلال حديثه أنه يفكر جدياً في ترك الوظيفة الحكومية نهائياً حتى لو عادت رواتب المعلمين من جديد.
زميلته التربوية والمعلمة (م.ع.و27عاماً) كانت تنقلت بعد التحاقها بسلك التعليم في المحافظة قبل خمس سنوات، بين أكثر مَن مدرسة، تبعاً لمكان السكن الذي تنتقل إليه الأسرة من وقت لآخر بسبب عدم امتلاكها لمنزل خاص. أما بعد توقف رواتب المعلمين منذ 18 شهراً، فقد اضطرتها المعيشة، للبحث عن عمل بديل، وهو ما أجبرها على النزوح مع أسرتها المكونة من خمسة أفراد إلى العاصمة صنعاء، حيث فرص الحياة تبدو أفضل بكثير من مدينتها عمران.
تقول إنها كانت أكثر حظاً من زميلات لها، أصبحن بلا مصدر للرزق، بعد انقطاع الراتب، إذ حصلت على عمل في منظمة مدنيَّة إغاثية في العاصمة براتب لا يتعدى 100 دولار، لكنه على الأقل يلبي متطلبات يومها الضرورية.
تجزم معلمة الجغرافيا للصفوف المتوسطة، خلال حديثها، أن معظم معلمي المحافظة عمران، ممن ليس لديهم مصادر دخل أخرى، باتوا مهددين وأسرهم بالموت جوعاً بسبب توقف صرف مرتباتهم، إلا إن كانوا محظوظين بالانصراف إلى أعمال أخرى تقيهم مذلة السؤال، وعذاب الانتظار لراتب ربما لن يأتي أبدا.
ولأن راتب المعلمين، لا يعني فقط تهديد معيشتهم، بل يلقي بتبعاته على المنظومة التعليمية برمتها، إذ إن هناك عشرات الآلاف من التلاميذ مهددين بترك فصولهم الدراسية التي أصبح معلموهم يتوارون عنها تدريجياً كلما طال أمد انقطاع رواتبهم.
المصدر "القدس العربي"